[ ص: 30 ] ومما ينبغي أن يعلم أن كثيرا من النصارى إنما يعتمدون في النبوات على بشارة الأنبياء بمن يأتي بعدهم فيقولون : محمد - صلى الله عليه وسلم - ، فإنه لم يبشر به نبي وجواب هؤلاء من وجهين . المسيح - عليه السلام - بشرت به الأنبياء قبله بخلاف
أحدهما أن يقال : بل البشارة بمحمد - صلى الله عليه وسلم - في الكتب المتقدمة أعظم من البشارة بالمسيح وكما أن اليهود يتأولون البشارة بالمسيح على أنه ليس هو عيسى بن مريم بل هو آخر ينتظرونه وهم في الحقيقة إنما ينتظرون المسيح الدجال ، فإنه الذي يتبعه اليهود ويخرج معه سبعون ألف مطيلس من يهود أصبهان ويقتلهم المسلمون معه حتى يقول الشجر [ ص: 31 ] والحجر يا مسلم هذا يهودي ورائي تعال فاقتله ، كما ثبت ذلك في الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وثبت أيضا في الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : عيسى ابن مريم من السماء على المنارة البيضاء شرقي دمشق فيكسر الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية ويقتل مسيح الهدى ينزل عيسى ابن مريم مسيح الضلالة الأعور الدجال على بضع عشرة خطوة من باب لد ليتبين [ ص: 32 ] للناس أن البشر لا يكون إلها ، فيقتل من ادعى فيه أنه الله وهو بريء مما ادعى فيه لمن ادعى في نفسه أنه الله وهو دجال كذاب ، فهكذا البشارات بمحمد - صلى الله عليه وسلم - في الكتب المتقدمة ، وقد يتأولها بعض أهل الكتاب على غير تأويلها ، كما قد بسط في موضع آخر ، فإن بسط الكلام في ذكر محمد - صلى الله عليه وسلم - في الكتب التي بأيدي أهل الكتاب له موضع آخر .
الجواب الثاني : أن يقال موسى كان رسولا إلى فرعون ، ولم يتقدم لفرعون به بشارة وكذلك ليس من شرط النبي أن يبشر به من تقدمه كما أن الخليل - عليه السلام - أرسل إلى نمرود ولم يتقدم به بشارة نبي إليه وكذلك نوح وهود وصالح وشعيب ولوط لم يتقدم هؤلاء بشارة إلى قومهم بهم مع كونهم أنبياء صادقين ، فإن بل دلائل النبوة منها المعجزات ومنها غير المعجزات كما قد بسط في موضع آخر وهؤلاء النصارى إنما مستند دينهم في التثليث والاتحاد وغير ذلك هو السمع وهو دعواهم أن الكتب الإلهية جاءت بذلك ليس مستندهم فيه العقل فإذا تبين أنهم مع تكذيبهم دلائل نبوة النبي لا تنحصر في أخبار من تقدمه بمحمد - صلى الله عليه وسلم - يمتنع أن [ ص: 33 ] تثبت نبوة غيره امتنع استدلالهم بالسمعيات وأما العقليات ، فإن تشبثوا ببعضها فهم معترفون بأن حجتهم فيها ضعيفة وأنها على نقيض مذهبهم أدل منها على مذهبهم وسنبين إن شاء الله تعالى أن لا حجة لهم في سمع ولا عقل بل ذلك كله حجة عليهم .
وأما تمثيلهم الكتاب بالوثيقة التي كتب الوفاء في ظهرها فتمثيل باطل غير مطابق ; لأن الإقرار بالوفاء إقرار بسقوط الدين ولا مناقضة بين ثبوت الدين أولا وسقوطه آخرا بالوفاء بل أمكن مع هذا دعواه وأما من يذكر أنه رسول الله فلا يمكن أن يقر بأنه رسول الله في بعض ما أنبأ به عن الله دون بعض ، ولا يمكن اتباع بعض كتابه الذي ذكر أنه منزل من عند الله دون بعض ، فإنه إن كان صادقا في قوله : إنه رسول الله ، كان معصوما في ما يخبر به عن الله ، لا يجوز أن يكذب في شيء منه لا عمدا ولا خطأ ، ووجب اتباع الكتاب الذي جاء به من عند الله ولم يمكن رد شيء مما ذكر أنه جاء به من الله ، وإن كان كاذبا في كلمة واحدة مما أخبر به عن الله ، فهو من الكاذبين المفترين فلا يجوز أن يحتج بشيء من دينهم ولا دين غيرهم بمجرد إخباره عن الله ، بل ولا بمجرد خبره وقوله وإن لم يذكر أنه خبر عن الله ، كما لا يجوز مثل ذلك في سائر من عرف أنه كاذب في قوله : إني رسول الله كمسيلمة الحنفي والأسود العنسي وطليحة الأسدي والحارث الدمشقي وبابا [ ص: 34 ] الرومي وأمثالهم من الكذابين .
والواحد من المسلمين وإن كان الله لا يؤاخذه بالنسيان والخطأ بل والرسول أيضا وإن لم يكن يؤاخذ بالنسيان والخطأ في غير ما يبلغه عن الله عند السلف والأئمة وجمهور المسلمين ، لكن ما يبلغه عن الله لا يجوز أن يستقر فيه خطأ ، فإنه لو جاز أن يبلغ عن الله ما لم يقله ويستقر ذلك ويأخذه الناس عنه معتقدين أن الله قاله - ولم يقله الله - كان هذا مناقضا لمقصود الرسالة ولم يكن رسولا لله في ذلك بل كان كاذبا في ذلك وإن لم يتعمده وإذا بلغ عن الله ما لم يقله وصدق في ذلك كان قد صدق من قال على الله غير الحق ، ومن تقول عليه ما لم يقله ، وإن لم يكن متعمدا ، ويمتنع في مثل هذا أن يصدقه الله في كل ما يخبر به عنه أو أن يقيم له من الآيات والبراهين ما يدل على صدقه في كل ما يخبر به عنه مع أن الأمر ليس كذلك ومن قامت البراهين والآيات على صدقه فيما يبلغه عن الله كان صادقا في كل ما يخبر به عن الله لا يجوز أن يكون في خبره عن الله شيء من الكذب لا عمدا ولا خطأ ، وهذا مما اتفق عليه جميع الناس من المسلمين واليهود والنصارى [ ص: 35 ] وغيرهم لم يتنازعوا أنه لا يجوز أن يستقر في خبره عن الله خطأ وإنما تنازعوا هل يجوز أن يقع من الغلط ما يستدركه ويبينه فلا ينافي مقصود الرسالة كما نقل من ذكر " " هذا فيه قولان للناس : منهم من [ ص: 36 ] يمنع ذلك أيضا وطعن في وقوع ذلك ، ومن هؤلاء من قال : إنهم سمعوا ما لم يقله فكان الخطأ في سمعهم والشيطان ألقى في سمعهم . تلك الغرانيق العلى ، وأن شفاعتها لترتجى
ومن جوز ذلك قال : إذا حصل البيان ونسخ ما ألقى الشيطان لم يكن في ذلك محذور ، وكان ذلك دليلا على صدقه وأمانته وديانته ، وأنه غير متبع هواه ولا مصر على غير الحق ، كفعل طالب الرياسة المصر على خطئه .
وإذا كان نسخ ما جزم بأن الله أنزله لا محذور فيه ، فنسخ مثل هذا أولى أن لا يكون فيه محذور ، واستدل على ذلك بقوله : وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته والله عليم حكيم ( 52 ) ليجعل ما يلقي الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم وإن الظالمين لفي شقاق بعيد ( 53 ) وليعلم الذين أوتوا العلم أنه الحق من ربك فيؤمنوا به فتخبت له قلوبهم وإن الله لهاد الذين آمنوا إلى صراط مستقيم [ ص: 37 ] وعلى كل قول فالناس متفقون على أن من أرسله الله وأقام الآيات على صدقه فيما يبلغه عن الله : لم يكن ما يبلغه عنه إلا حقا وإلا كانت الآيات الدالة على صدقه دلت على صدق من ليس بصادق ، وبطلان مدلول الأدلة اليقينية ممتنع .
والصدق الذي هو مدلول آيات الأنبياء وبراهينهم هو أن يكون خبره عن الله مطابقا لمخبره لا يخالفه عمدا ولا خطأ ولو قال قائل : أنا لا أسمي الخطأ كذبا أو قال : إن المخطئ لا إثم عليه في خطئه .
قيل له : هذا لا ينفع هنا ، فإن الآيات دلت على أن الله أرسله ليبلغ عنه رسالاته ، والله لا يرسل من يعلم أنه يخبر عنه بخلاف ما قال له ، كما لا يجوز إرسال من يتعمد عليه الكذب بل الواحد من الناس لا يرسل من يعلم أنه يبلغ خلاف ما أرسله به ولو علم أنه يقول عليه ما لم يقل وأرسله مع ذلك ، لكان جاهلا سفيها ليس بعليم حكيم ، فكيف يجوز ذلك على أعلم العالمين وأحكم الحاكمين ؟ .
وأيضا : فإن الآيات والبراهين دلت على صدقه في كل ما يبلغه عن الله ، وأن الله مصدقه في كل ما يبلغه عنه ، فيمتنع أن لا يكون صادقا في شيء من ذلك ، ويمتنع أن يصدق الله في كل ذلك من لا يصدق في كل ذلك ، فإن تصديق من لا يصدق كذب والكذب ممتنع على الله .
وإذا تبين أن من ذكر أنه رسول الله إما أن يكون رسولا صادقا في [ ص: 38 ] جميع ما يبلغه فيمتنع مع هذا تناقض أخباره ؛ لأنها كلها صادقة ، وإما أن يكون غير صادق ولو في كلمة فلا يكون رسولا لله ، فلا يحتج بشيء مما يخبر به عن الله كان تمثيل من ذكر أنه رسول الله بالمقر باستيفاء وثيقته تمثيلا باطلا ، فإن صاحب الوثيقة الذي أقر بوفائها بعد ، كانت له حجة ثم استوفاها .
ومن ذكر أنه رسول الله إما صادق وإما كاذب ، وعلى التقديرين لا يجوز أن يحتج ببعض كلامه دون بعض ، وإذا قال القائل : مقصودي أبين أنه متناقض ، وأن نفس كلامه يبين أنه لم يرسل إلينا ، وأن ديننا حق ، كما أن نفس كلام الذي كان له الحق هو المقر بالوفاء ، قيل : إن كان كلامه متناقضا فليس برسول ، وحينئذ فلا يجوز لك أن تحتج بشيء مما بلغه عن الله بخلاف المقر بالوفاء ، فإن إقراره مقبول على نفسه ، فإنه شاهد على نفسه بالوفاء ، وإقرار المقر على نفسه وشهادته على نفسه مقبولة ولو كان كافرا وفاسقا ، بخلاف شهادته وخبره عن الله .
فمن شبه إقرار المقر على نفسه بقول الذي يقول : إنه رسول الله ، دل ذلك على غاية جهله بالقياس والاعتبار والتمثيل . فإن إقرار المقر [ ص: 39 ] على نفسه حجة عليه ولو كان فاسقا معروفا بالكذب ، ليس هو مثل شهادة الإنسان على غيره ، فإن شهادته على غيره لا تقبل إذا كان معروفا بالكذب ، فكيف بمن شهد على الله بأن الله أرسله ؟ فالمقر على نفسه يمكن قبول إقراره على نفسه ولا يقبل دعواه على غيره ، وكذلك الشاهد قد تقبل شهادته فيما ليس هو خصما فيه ولا تقبل شهادته بما ادعاه .
وأما من يقول : إنه رسول الله ، فلا يمكن أن يصدق في بعض ما يخبر به عن الله ويكذب في بعض ، بل إن كان كاذبا في كلمة واحدة فليس هو رسولا لله ، فلا يحتج بكلامه ، وإن قدر أن الكلام في نفسه صدق لكن نسبته إلى الله أن الله أرسله به وأوحاه لا يكون صادقا فيه إذا كذب في كلمة واحدة ; لأن الله لا يرسل كاذبا .
وإن لم يكن كاذبا في كلمة واحدة وجب تصديقه في كل ما يخبر به فلا يمكن تصديقه في بعض ما يخبر به عن الله دون بعض بخلاف المقر والشاهد .
وإن كان المقصود بيان تناقضه ، كان هذا احتجاجا على أنه ليس برسول فلا ينفعهم ذلك مع أنه تبين أنه ليس بمتناقض .
وإن كان المقصود إلزام المسلمين به ، فقد بينا أنه لا يلزمهم من وجوه متعددة ، فهذا بيان أنهم لا يجوز لهم الاحتجاج بشيء من كلام محمد - صلى الله عليه وسلم - سواء صدقوه أو كذبوه .
[ ص: 40 ] ثم يقال لهم ثانيا : في الجواب عن التمثيل بالوثيقة : إن الإقرار بالاستيفاء يناقض استيفاء الحق ، وأما القرآن الذي جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم - فليس في إخباره بأنه أرسل إلى قريش ثم إلى العرب ما يناقض إخباره بأنه أرسل إلى جميع الناس : أهل الكتاب وغيرهم .
كما أنه ليس في إخباره أنه أرسل إلى بني إسرائيل ومخاطبة الله لهم بقوله : يابني إسرائيل ما يمنعه أن يكون مرسلا إلى اليهود من غير بني إسرائيل وإلى النصارى والمشركين وهو لم يقل قط : إني لم أرسل إلا إلى العرب ولا قال ما يدل على هذا بل ثبت عنه بالنقل المتواتر أنه قال : إنه مرسل إلى جميع الجن والإنس إلى أهل الكتاب وغيرهم ، ولو قدر أنه قال : أنه لم يرسل إلا إلى العرب ثم قال : إني أرسلت إلى أهل الكتاب لكان قد أرسل إلى أهل الكتاب بعد إرساله إلى العرب كما قال : قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير [ ص: 41 ] وقال أيضا : إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير ثم إنه بعد هذا حرم الله أشياء فلم يكن بين نفي تحريمها في الزمن الأول وإثبات تحريمها في الزمن الثاني منافاة .
ولكن يظهر الدين إذا أوجب شيئا ثم نسخ إيجابه كما نسخ إيجاب الصدقة بين يدي النجوى ففي مثل هذا يتمسك بالنص الناسخ دون المنسوخ كما يتمسك بالإقرار بالوفاء الناسخ للإقرار بالدين .