[ ص: 69 ] وأما قوله - تعالى - : إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون وقوله : ولو جعلناه قرآنا أعجميا لقالوا لولا فصلت آياته أأعجمي وعربي وقوله : إنا جعلناه قرآنا عربيا فهذا يتضمن إنعام الله على عباده ; لأن على الخلق من نزوله بغيره وهو إنما خوطب به أولا العرب ليفهموه ثم من يعلم لغتهم يفهمه كما فهموه ثم من لم يعلم لغتهم ترجمه له من عرف لغتهم وكان إقامة الحجة به على العرب أولا والإنعام به عليهم أولا لمعرفتهم بمعانيه قبل أن يعرفه غيرهم . اللسان العربي أكمل الألسنة وأحسنها بيانا للمعاني فنزول الكتاب به أعظم نعمة
قال - تعالى - : فإنما يسرناه بلسانك لعلهم يتذكرون [ ص: 70 ] وقال : فإنما يسرناه بلسانك لتبشر به المتقين وتنذر به قوما لدا واللد جمع الألد وهو الأعوج في المناظرة الذي يروغ عن الحق كما قال : النبي - صلى الله عليه وسلم - وأما قوله - تعالى - : إن أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم فهو كما قال - تعالى - وقوم محمد - صلى الله عليه وسلم - هم قريش وبلسانهم أرسل وهو سبحانه لم يقل : وما أرسلنا من رسول إلا إلى قومه بل الرسول يبعثه الله إلى قومه وغير قومه كما تقول النصارى : أنه بعث المسيح - عليه السلام - والحواريين إلى غير بني إسرائيل وليسوا من قومه ، فكذلك بعث محمدا - صلى الله عليه وسلم - إلى قومه وغير قومه ، ولكن إنما يبعث بلسان قومه ليبين لهم ثم يحصل البيان لغيرهم بتوسط البيان لهم إما بلغتهم [ ص: 71 ] ولسانهم وإما بالترجمة لهم ولو لم يتبين لقومه أولا لم يحصل مقصود الرسالة لا لهم ولا لغيرهم وإذا تبين لقومه أولا حصل البيان لهم ولغيرهم بتوسطهم وقومه إليهم بعث أولا ولهم دعا أولا وأنذر أولا وليس في هذا أنه لم يرسل إلى غيرهم لكن إذا تبين لقومه لكونه بلسانهم أمكن بعد هذا أن يعرفه غير قومه إما بتعلمه بلسانهم وإما بتعريف بلسان يفهم به والرجل يكتب كتاب علم في طب أو نحو أو حساب بلسان قومه ثم يترجم ذلك الكتاب وينقل إلى لغات أخر وينتفع به أقوام آخرون كما ترجمت كتب الطب والحساب التي صنفت بغير العربي وانتفع بها العرب وعرفوا مراد أصحابها وإن كان المصنف لها أولا إنما صنفها بلسان قومه وإذا كان هذا في بيان الأمور التي لا يتعلق بها سعادة الآخرة والنجاة من عذاب الله فكيف يمتنع في العلوم التي يتعلق بها سعادة الآخرة والنجاة من العذاب أن ينقل من لسان إلى لسان حتى يفهم أهل اللسان الثاني بها ما أراده بها المتكلم بها أولا باللسان الأول .
وأبناء فارس المسلمون لما كان لهم من عناية بهذا ترجموا مصاحف كثيرة فيكتبونها بالعربي ويكتبون الترجمة بالفارسية وكانوا قبل الإسلام أبعد عن المسلمين من الروم والنصارى فإذا كان الفرس المجوس قد وصل إليهم معاني القرآن بالعربي وترجمته فكيف لا يصل إلى أهل الكتاب وهم أقرب إلى المسلمين منهم وعامة الأصول التي [ ص: 72 ] يذكرها القرآن عندهم شواهدها ونظائرها في التوراة والإنجيل والزبور وغير ذلك من النبوات بل كل من تدبر نبوات الأنبياء وتدبر القرآن جزم يقينا بأن محمدا رسول الله حقا وأن موسى رسول الله صدقا لما يرى من مع العلم بأن تصادق الكتابين التوراة والقرآن موسى - عليه السلام - لم يأخذ عن محمد - صلى الله عليه وسلم - وأن محمدا - صلى الله عليه وسلم - لم يأخذ عن موسى ، فإن محمدا - صلى الله عليه وسلم - باتفاق أهل المعرفة بحاله كان أميا من قوم أميين مقيما بمكة ولم يكن عندهم من يحفظ التوراة والإنجيل ولا الزبور ومحمد لم يخرج من بين ظهرانيهم ولم يسافر قط إلا سفرتين إلى الشام خرج مرة مع عمه أبي طالب قبل الاحتلام ولم يكن يفارقه ومرة أخرى مع ميسرة في تجارته وكان ابن بضع وعشرين سنة مع رفقة كانوا يعرفون جميع أحواله ولم يجتمع قط بعالم أخذ عنه شيئا لا من علماء اليهود ولا النصارى ولا من غيرهم لا بحيرى ولا غيره ، ولكن كان بحيرى الراهب لما رآه عرفه لما كان عنده من ذكره ونعته فأخبر أهله بذلك وأمرهم بحفظه من اليهود ولم يتعلم لا من بحيرى ولا من غيره كلمة واحدة وسنبين - إن [ ص: 73 ] شاء الله - الدلائل الكثيرة على أنه لم يأخذ عن أحد من أهل الكتاب كلمة واحدة بحيرى مذكورة ذكرها أرباب السير وأصحاب المسانيد والسنن . وقصة
قال الحافظ أبو عيسى محمد بن عيسى بن سورة الترمذي في جامعه حدثنا الفضل أبو العباس البغدادي قال : حدثنا عبد الرحمن بن غزوان أبو نوح أنا يونس بن أبي إسحاق عن أبي بكر بن أبي موسى الأشعري عن أبيه قال : خرج أبو طالب [ ص: 74 ] إلى الشام وخرج معه النبي - صلى الله عليه وسلم - في أشياخ من قريش فلما أشرفوا على الراهب هبطوا فحلوا رحالهم فخرج إليهم الراهب وكانوا قبل ذلك يمرون به فلا يخرج إليهم ولا يلتفت قال : فهم يحلون رحالهم فجعل يتخللهم الراهب حتى جاء فأخذ بيد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : هذا سيد العالمين هذا رسول رب العالمين يبعثه الله رحمة للعالمين فقال : له أشياخ من قريش ما علمك فقال : إنكم حين أشرفتم من العقبة لم يبق شجر ولا حجر إلا خر ساجدا ولا يسجدن إلا لنبي وإني أعرفه بخاتم النبوة أسفل من غرضوف كتفه مثل التفاحة ثم رجع فصنع لهم طعاما فلما أتاهم به - وكان هو في رعية الإبل - فقال : أرسلوا إليه فأقبل وعليه غمامة تظله فلما دنا من القوم وجدهم قد سبقوه إلى فيء الشجرة فلما جلس مال فيء الشجرة عليه فقال : انظروا إلى فيء الشجرة مال عليه قال : فبينما هو قائم عليهم يناشدهم أن لا يذهبوا به إلى الروم ، فإن الروم إن رأوه عرفوه بالصفة فيقتلونه فالتفت فإذا بسبعة قد أقبلوا من الروم فاستقبلهم الراهب فقال : ما جاء بكم قالوا : جئنا ; لأن هذا النبي خارج في هذا الشهر فلم يبق طريق إلا بعث إليه بأناس وإنا قد أخبرنا خبره بطريقك هذا .
[ ص: 75 ] فقال أفرأيتم أمرا أراد الله أن يقضيه هل يستطيع أحد من الناس رده ؟ قالوا : لا . قال : فتابعوه وأقاموا معه . قال : أنشدكم الله يا معشر العرب أيكم وليه فقال : أبو طالب أنا فلم يزل يناشده حتى رده أبو طالب وزوده الراهب من الكعك والزيت .
قال هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه ورواه الترمذي في كتاب دلائل النبوة من حديث البيهقي العباس بن محمد عن قراد بن نوح وقال : العباس لم يحدث به يعني بهذا الإسناد غير قراد وسمعه يحيى وأحمد من قراد .
قال أراد أنه لم يحدث بهذا الإسناد سوى هؤلاء فأما القصة فهي عند أهل المغازي مشهورة . البيهقي
[ ص: 76 ] وقال ابن سعد في الطبقات : حدثنا محمد بن عمر قال : حدثني محمد بن صالح وعبد الله بن جعفر وإبراهيم بن إسماعيل بن أبي حبيبة عن داود بن الحصين قال : لما بلغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اثني عشرة سنة خرج به أبو طالب إلى الشام في العير التي خرج فيها للتجارة فنزلوا بالراهب [ ص: 77 ] بحيرى فقال : بحيرى لأبي طالب في النبي - صلى الله عليه وسلم - ما قال ، وأمره أن يحتفظ به فرده أبو طالب معه إلى مكة وشب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع أبي طالب يكلؤه الله ويحفظه ويحوطه من أمور الجاهلية ومعايبها لما يريده به من كرامته حتى بلغ أن كان رجلا أفضل قومه مروءة وأحسنهم خلقا وأكرمهم مخالطة وأعظمهم حلما وأمانة وأصدقهم حديثا وأبعدهم من الفحش والأذى فما رئي ملاحيا ولا مماريا أحدا حتى سماه قومه الأمين لما جمع فيه من الأمور الصالحة .
وقال : ابن الجوزي خرج أبو طالب إلى الشام ومعه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو ابن اثنتي عشرة سنة وشهرين وعشرة أيام فنزل الركب ببصرى وبها راهب - يقال له بحيرى - في صومعة له وكان ذا علم بالنصرانية ولم يزل في تلك الصومعة راهب تنتهي إليه علم النصرانية صاغرا عن كابر وفيها كتب يدرسونها وكان كثيرا ما يمر الركب فلا يكلمهم حتى إذا كان في ذلك العام نزلوا منزلا قريبا من الصومعة فصنع لهم الراهب طعاما ودعاهم وإنما حمله على ذلك لشيء رآه فلما رأى بحيرى ذلك نزل من صومعته وأمر بذلك الطعام فحضر وأرسل إلى القوم فقال : يا معشر قريش أحب أن [ ص: 78 ] تحضروا طعامي ولا يتخلف منكم أحد فقال : وهذا شيء تكرموني فلما حضروا عنده جعل يلاحظ النبي - صلى الله عليه وسلم - لحظا شديدا وينظر إلى جسده وجعل أبو طالب يخاف عليه من الراهب ثم قال الراهب لأبي طالب ارجع بابن أخيك ، فإنه كائن له شأن عظيم ، فإنا نجد صفته في كتبنا ويروونه عن آبائنا فلما فرغوا من التجارة رجع أبو طالب سريعا إلى مكة فما خرج بعدها به أبو طالب خوفا عليه .
هذا مع أن في القرآن من الرد على أهل الكتاب في بعض ما حرفوه مثل المسيح - عليه السلام - صلب وقول بعضهم : أنه إله وقول بعضهم : أنه ساحر . وطعنهم على دعواهم أن سليمان - عليه السلام - وقولهم أنه كان ساحرا . وأمثال ذلك ما يبين أنه لم يأخذ عنهم .
- عليهم السلام - ما لا يوجد في التوراة والإنجيل مثل قصة وفي القرآن من قصص الأنبياء هود وصالح وشعيب وغير ذلك .
[ ص: 79 ] بل التوراة ليس فيها تصريح بذكر المعاد وعامة ما فيها من الوعد والوعيد فهو في الدنيا كالوعد بالرزق والنصر والعاقبة والوعيد بالقحط والأمراض والأعداء . وإن كان ذكر المعاد موجودا في غير التوراة من النبوات ولهذا كان وفي القرآن من ذكر المعاد وتفصيله وصفة الجنة والنار والنعيم والعذاب ما لا يوجد مثله في التوراة والإنجيل وقد قيل إن ذلك مذكور في التوراة أيضا لكن لم يبسط كما بسط في غير التوراة . أهل الكتاب يقرون بالمعاد وقيام القيامة الكبرى