الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح

ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

صفحة جزء
[ ص: 80 ] فإن قالوا إن الكتب التي عندنا من التوراة والإنجيل وغيرهما ترجمها لنا الحواريون وهم عندنا رسل معصومون وترجموها لجميع الأمم بخلاف القرآن ، فإنه إنما يترجمه من ليس بمعصوم فعن هذا أجوبة .

أحدها : أن هذا كذب بين ، فإن من العرب من النصارى من لا يحصي عدده إلا الله تعالى وكان فيهم نصارى كثيرون تنصروا قبل مبعث محمد - صلى الله عليه وسلم - وكان فيهم قوم على دين المسيح الذي لم يبدل وهم مؤمنون من أهل الجنة كسائر من كان على دين المسيح - عليه السلام - فإن كل من كان على دين المسيح الذي لم يبدل قبل مبعث محمد ، فإنه مؤمن مسلم من أهل الجنة .

ومع هذا فليس على وجه الأرض توراة ولا إنجيل معرب من عهد الحواريين بل التوراة العبرية تنقل من اللسان العبري أو غيره إلى العربية وكذلك الإنجيل ينقل من اللسان الرومي أو السرياني [ ص: 81 ] أو اليوناني أو غيرها إلى اللغة العربية فلو كان عند كل أمة من الأمم توراة وإنجيل ونبوات بلسانهم لكان نصارى العرب أحق بهذا من نصارى الحبشة والصقالبة والهند ، فإنهم جيران البيت المقدس وهم بنو إسماعيل - عليه السلام - والأناجيل عندهم أربعة وهم يدعون أن كل واحد كتبها بلسان كتبت بلسان العبري والرومي واليوناني مع أن في بعض الأناجيل ما ليس في بعض مثل قولهم : " عمدوا الناس باسم الآب والابن وروح القدس " الذي جعلوه أصل دينهم وهذا إنما هو قوله : في إنجيل متى ، وإذا كان كل واحد من الأربعة كتب إنجيلا بلسانه لم يكن هناك إنجيل واحد أصلي ترجع إليه الأناجيل كلها ثم هم مع هذا يدعون أنها ترجمت باثنين وسبعين لسانا وهذا فيه من الكذب والتناقض أمور سننبه - إن شاء الله - على بعضها لكن غاية ما يدعون أنه ترجم باثنين وسبعين لسانا ومعلوم أن الألسنة الموجودة في بني آدم في جميع المعمورة في زماننا وقبل زماننا أكثر من هذا كما يعرفه من عرف أحوال العالم ، بل اللسان الواحد كالعربي والفارسي والتركي جنس تحته أنواع مختلفة لا يفهم بعضهم لسان [ ص: 82 ] بعض إلا أن يتعلمه منهم والعرب أقرب الأمم إلى بني إسحاق : بني إسرائيل والعيص ، فإنهم بنو إسماعيل وجيرانهم ، فإن أهل الحجاز جيران الشام ، ومكة لم تزل تحج إليها العرب ولم يكن قط عند العرب توراة ولا إنجيل عربيان من عهد المسيح - عليه السلام - بل ولا كان بمكة لا توراة ولا إنجيل لا معرب ولا غير معرب ولهذا قال - تعالى - : لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك فكيف يدعى أن التوراة والإنجيل ترجمها الحواريون لكل قوم من جميع بني آدم شرقا وغربا وجنوبا وشمالا بلسان يفهمونه به وهل يقول هذا إلا من هو من أكذب الناس وأجهلهم .

الوجه الثاني : أن يقال ترجمة الكلام من لغة إلى لغة لا تحتاج إلى معصوم بل هذا أمر تعلمه الأمم فكل من عرف اللسانين أمكنه الترجمة ويحصل العلم بذلك إذا كان المترجمون كثيرين متفرقين [ ص: 83 ] لا يتواطئون على الكذب وبقرائن تقترن بخبر أحدهم وبغير ذلك وهذا موجود معلوم بل إذا ترجمه اثنان كل منهما لا يعرف ما يقوله : الآخر ولم يتواطئوا حصل بذلك المقصود في الغالب وهم يذكرون أن التوراة ترجمها اثنان وسبعون حبرا من اليهود ولم يكونوا معصومين وأن الملك فرقهم لئلا يتواطئوا على الكذب واتفقوا على ترجمة واحدة وهذا كان بعد الخراب الأول فهكذا يمكن ترجمة غير التوراة .

وهذه التوراة في زماننا والإنجيل والزبور يترجم باللغة العربية ويعرف المقصود به بلا ريب فكيف بالقرآن الذي يفهم أهله معناه ويفسرونه ويترجمونه أكمل وأحسن مما يترجم أهل التوراة والإنجيل التوراة والإنجيل ؟ .

الوجه الثالث : أن دعوى العصمة في كل واحد من الحواريين وأنهم رسل الله بمنزلة إبراهيم وموسى - عليهما السلام - دعوى ممنوعة وهي باطلة وإنما هم رسل المسيح - عليه السلام - بمنزلة رسل موسى ورسل إبراهيم ورسل محمد وأكثر النصارى أو كثير منهم أو كلهم يقولون هم رسل الله وليسوا بأنبياء وكل من ليس بنبي فليس برسول الله وليس بمعصوم وإن كانت له خوارق عادات كأولياء الله من المسلمين وغيرهم ، فإنه وإن كانت لهم كرامات من الخوارق فليسوا معصومين من الخطأ [ ص: 84 ] والخوارق التي تجري على يدي غير الأنبياء لا تدل على أن أصحابها أولياء الله عند أكثر العلماء فضلا عن كونهم معصومين ، فإن ولي الله من يموت على الإيمان ومجرد الخارق لا يدل على أنه يموت على الإيمان بل قد يتغير عن ذلك الحال وإذا قطعنا بأن الرجل ولي الله كمن أخبر النبي بأنه من أهل الجنة فلا يجب الإيمان بكل ما يقوله : إن لم يوافق ما قالته الأنبياء بخلاف الأنبياء - عليهم السلام - فإنهم معصومون لا يجوز أن يستقر فيما يبلغونه خطأ ولهذا أوجب الله الإيمان بهم ومن كفر بواحد منهم فهو كافر ومن يسب واحدا منهم وجب قتله في شرع الإسلام كما قال - تعالى - : قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون ( 136 ) فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما هم في شقاق فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم وقال - تعالى - : آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير .

[ ص: 85 ] وهذا مبسوط في موضع آخر .

التالي السابق


الخدمات العلمية