الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح

ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

صفحة جزء
[ ص: 385 ] وإذا تبين للخاصة والعامة ممن آمن بمحمد - صلى الله عليه وسلم - ومن كفر به أنه كان مصدقا لما بين يديه من الكتب والأنبياء مصدقا للتوراة والإنجيل شاهدا بأن موسى - عليه السلام - ومن كان متبعا له على الحق وأن المسيح - عليه السلام - ومن اتبعه على الحق وإن كان يكفر جميع اليهود والنصارى وغيرهم ممن بلغته رسالته ولم يؤمن به وشهد عليهم بأنهم حرفوا كثيرا من معاني التوراة والإنجيل قبل نبوته وأن أهل الكتاب كلهم مع المسلمين يشهدون أيضا بأن كثيرا من معاني التوراة والإنجيل حرفها كثير من أهل الكتاب لم يجز لأحد من أهل الكتاب أن يحتج بقول محمد - صلى الله عليه وسلم - على صحة دينهم الذي شهد محمد - صلى الله عليه وسلم - بأنه باطل مبدل منسوخ وأهله من أهل النار كما تقدم بسطه .

وإذا قالوا : نحن نذكر ذلك لنبين تناقضه حيث صدقها وهي تناقض بعض ما أخبر به أو لنبين أن ما أخبرت به الأنبياء قبله يناقض خبره فيكون ذلك قدحا فيما جاء به .

[ ص: 386 ] أجاب المسلمون عن هذا بعدة طرق .

أحدها : أن يقولوا أما مناقضة بعض خبره لبعض ; كما يزعمه هؤلاء من أن كتابه يمدح أهل الكتاب مرة ويذمهم أخرى وأنه يصدق الكتب المنزلة تارة ويذمها أخرى فهذا قد ظهر بطلانه ، فإنه إنما مدح من اتبع موسى والمسيح على الدين الذي لم يبدل ولم ينسخ .

وأما من اتبع الدين المبدل المنسوخ فقد كفره .

فأما دعواهم مناقضة خبره لخبر غيره فيقال : هو مصدق للأنبياء فما أخبروا به .

وأما ما بدل من ألفاظهم أو غيرها بالترجمة أو فسر بغير مرادهم فلم يصدقه ويقال أيضا إن نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - تثبت بمثل ما تثبت به نبوات الأنبياء قبله وبأعظم من ذلك كما قد بسط في موضع آخر وبين أن التكذيب بنبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - مع التصديق بنبوة غيره في غاية التناقض والفساد وأنه ما من طريق يعلم بها نبوة غيره إلا ونبوته تعلم بمثل تلك الطريق وبأعظم منها فلو لم تكن نبوته وطريق ثبوتها إلا [ ص: 387 ] مثل نبوة غيره وطريق ثبوتها لوجب التصديق بنبوته ; كما وجب التصديق بنبوة غيره ولكان تكذيبه كتكذيب إبراهيم وموسى وغيرهما من الرسل فكيف إذا كان ذلك أعظم من وجوه متعددة .

وحينئذ فالأنبياء كلهم صادقون مصدقون معصومون فيما يخبرون به عن الله لا يجوز أن يثبت في خبرهم عن الله خبر باطل لا عمدا ولا خطأ فلا يجوز أن يخبر أحدهم بخلاف ما أخبر به غيره بل ولا يفترقون في الدين الجامع ; كما قال - تعالى - : شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه وقال - تعالى - : ياأيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعملون عليم وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون فتقطعوا أمرهم بينهم زبرا كل حزب بما لديهم فرحون وإنما يقع النسخ في بعض الشرائع ; كما يقع النسخ في شريعة الرسول الواحد وحينئذ فيعلم أن كل ما ينقل عن الأنبياء المتقدمين مما يناقض ما علم من إخبار محمد - صلى الله عليه وسلم - فهو باطل سواء كان اللفظ نفسه باطلا لم يقله ذلك النبي أو قد قال : لفظا وغلط [ ص: 388 ] المترجمون له من لغة إلى لغة أو كان اللفظ وترجمته صحيحين لكن وقع الغلط في معرفة مراد ذلك النبي بذلك الكلام .

فإن كل ما يحتج به من الألفاظ المنقولة عن الأنبياء أنبياء بني إسرائيل وغيرهم ممن أرسل بغير اللغة العربية لا بد في الاحتجاج بألفاظه من هذه المقدمات أن يعلم اللفظ الذي قاله ويعلم ترجمته ويعلم مراده بذلك اللفظ .

والمسلمون وأهل الكتاب متفقون على وقوع الغلط في تفسير بعض الألفاظ وبيان مراد الأنبياء بها وفي ترجمة بعضها ، فإنك تجد بالتوراة عدة نسخ مترجمة وبينها فروق يختلف بها المعنى المفهوم وكذلك في الإنجيل وغيره فهذا الطريق في الجواب طريق عام لكل من آمن بمحمد - صلى الله عليه وسلم - وشهد أنه رسول الله باطنا وظاهرا يخاطب به كل يهودي ونصراني على وجه الأرض وإن لم يكن عارفا بما عند أهل الكتاب ، فإنه لا يقدر أحد من أهل الأرض يقيم دليلا صحيحا على نبوة موسى وعيسى وبطلان نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - ، فإن هذا ممتنع لذاته بل ولا يمكنه أن يقيم دليلا صحيحا على نبوة أحدهما إلا وإقامة مثل ذلك الدليل أو أعظم منه على نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - أولى وحينئذ فلا يمكن أحدا من أهل [ ص: 389 ] الكتاب أن يحتج بشيء من المنقولات عن الأنبياء المخالفة لما ثبت عن محمد - صلى الله عليه وسلم - سواء أقر بنبوته أو أنكرها بل إن احتج بشيء مما نقل عن محمد - صلى الله عليه وسلم - بين له بطلان احتجاجه به وأنه حجة عليه لا له .

وإن احتج بشيء من المنقول عن غيره من الأنبياء - عليهم السلام - طولب بتقدير نبوة ذلك النبي مع تكذيب محمد - صلى الله عليه وسلم - وإلا فبتقدير أن ينقل عن اثنين ادعيا النبوة وأتيا بالآيات التي تثبت بها النبوات خبران مناقضان لا يجوز تصديق هذا وتكذيب ذاك إن لم يتبين ما يدل على صدق هذا وكذب هذا وكذلك إذا عورض أحدهما بجنس ما يعارض الآخر .

وهذا لا يرد على المسلمين إذا ردوا ما يحتج به أهل الكتاب مما ينقلونه عن الأنبياء مخالفا لخبر محمد - صلى الله عليه وسلم - ، فإن المسلمين لا يطعنون في نبوة أحد من الأنبياء المعروفين وإنما يطعنون في أنهم أخبروا بما يخالف خبر محمد - صلى الله عليه وسلم - ، فإن ذلك لا يثبت أي لم يثبت اللفظ والترجمة وتفسير اللفظ وهذه المقدمات يمتنع أن تقوم على شيء يخالف خبر محمد لا جملة ولا تفصيلا .

فأهل الكتاب يطالبون فيما يعارضون به بثلاث مقدمات .

أحدها : تقدير أن أولئك صادقون ومحمد - صلى الله عليه وسلم - كاذب .

[ ص: 390 ] والثاني : ثبوت ما أتوا به لفظا .

والثالث : معرفة المراد باللفظ ترجمة وتفسيرا وإن قال الكتابي للمسلم : أنت توافقني على نبوة هؤلاء المتقدمين ، إجابة المسلم بوجوه .

منها أن يقول إني لم أوافقك على نبوة واحد منهم مع التكذيب بمحمد - صلى الله عليه وسلم - بل دين المسلمين كلهم أنه من آمن ببعض الأنبياء وكفر ببعض فهو كافر فكيف بمن كفر بمن هو عند المسلمين أفضل الأنبياء وخاتمهم بل قد يقول له أكثر المسلمين نحن لم نعلم نبوة أولئك إلا بإخبار محمد أنهم أنبياء فلو قدحنا في الأصل الذي قد علمنا به نبوتهم لزم القدح في نبوتهم والفرع إذا قدح في أصله دل على فساده في نفسه سواء قدر أصله صحيحا أو فاسدا ، فإنه إن كان أصله فاسدا فسد هو وإن كان أصله صحيحا وهو يناقضه بطل هو ، فإنه إن كان أصله فاسدا فسد هو وإن كان أصله صحيحا وهو يناقضه بطل هو فهو إذا ناقض أصله باطل على كل تقدير .

وكذلك إذا قال : له الكتابي قد اتفقنا على تصديق موسى والتوراة والمسيح والإنجيل .

قال له المسلم إنما وافقتك على تصديق موسى وعيسى الذين [ ص: 391 ] بشرا بمحمد - صلى الله عليه وسلم - ; كما أخبرنا به محمد عن الله حيث قال الله - تعالى - : ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر الآية .

وقال - تعالى - : وإذ قال عيسى ابن مريم يابني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقا لما بين يدي من التوراة ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد إلى أمثال ذلك .

فأما الإيمان بموسى الذي ذكر أن شريعته مؤيدة لا ينسخ منها شيء أو بمسيح ادعى أنه الله أو أن الله اتحد به أو حل فيه ونحو ذلك مما يدعيه أهل الكتاب في الرسولين والكتابين ويخالفهم فيه المسلمون فهذا من موارد النزاع لا من مواقع الإجماع فليس لأحد من أهل الكتاب أن يحتج على أحد من المسلمين بموافقته له على ذلك .

ومن تمام ذلك أن يقول المسلم نعم أنا أقر بنبوة موسى والمسيح وإن التوراة والإنجيل كلام الله لكن يمتنع عقلا الإقرار بنبوة واحد من هؤلاء دون نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - ، فإن [ ص: 392 ] البراهين والآيات والأدلة الدالة على صدق موسى والمسيح تدل على نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - بطريق الأولى فلو انتقضت تلك الأدلة لزم فسادها وأن لا أصدق بأحد من الأنبياء وإن كانت حقا لزم تصديقهم كلهم فلزم إما أن نصدقهم كلهم وإما أن نكذبهم كلهم ولهذا كان من آمن ببعض وكذب ببعض كافرا .

ومن الأجوبة للمسلمين أن يقولوا نحن نصدق الأنبياء المتقدمين في كل ما أخبروا به لكن من نقل عنهم أنهم أخبروا بما يناقض خبر محمد فلا بد له من مقدمتين ، ثبوت ذلك اللفظ عن الأنبياء والعلم بمعناه الذي يعلم أنه مناقض للمعنى الذي علم أن محمدا عناه ، ثم العلم باللفظ يحتاج مع الخطاب بغير ألسن الأنبياء العربية سواء كانت عربية أو رومية أو سريانية أو قبطية إلى أن يعرف أن هذا اللفظ الذي ترجم به لفظه مطابق للفظه ويمتنع ثبوت المقدمتين ; لأن في ثبوتهما تناقض الأدلة العلمية ، والأدلة العلمية لا تتناقض .

الطريق الثاني : أن يقول المسلمون : ما تذكرونه من المنقول عن الأنبياء مناقضة لما أخبر به محمد أمور لم تعلم صحتها فلا يجوز اعتقاد ثبوتها والجزم بها ولو لم يعلم [ ص: 393 ] أن محمدا - صلى الله عليه وسلم - أخبر بخلافها فكيف إذا علم أنه أخبر بخلافها وذلك أن العلم بثبوتها مبني على مقدمات .

أحدها : العلم بنبوتهم وهذا ممتنع مع تكذيب محمد - صلى الله عليه وسلم - .

والثانية : أنهم قالوا : هذه الألفاظ وهذا يحتاج إلى إثبات تواتر هذه الألفاظ عن الأنبياء ولم يثبت أنها تواترت عنهم .

والثالثة : أن معناها هو المعنى المناقض لخبر محمد - صلى الله عليه وسلم - ولم يعلم ذلك .

وكل واحدة من هذه المقدمات تمنع العلم بثبوت هذه المعاني المناقضة لخبر محمد - صلى الله عليه وسلم - فكيف إذا اجتمعت .

وهي تمنع العلم بصحتها ولو لم تناقض خبر محمد فكيف إذا ناقضته .

الطريق الثالث : طريق من يبين أن ألفاظ هذه الكتب لم تتواتر ويثبتون ذلك بانقطاع تواتر التوراة لما خرب بيت المقدس وانقطاع تواتر الإنجيل في أول الأمر .

الطريق الرابع : طريق من يبين أن بعض ألفاظ الكتب حرفت ، [ ص: 394 ] ويقيم الأدلة الشرعية والعقلية على تبديل بعض ألفاظها .

الطريق الخامس : أن يبين أن الألفاظ التي بأيديهم لا تناقض ما أخبر به محمد بل تدل على صدق محمد - صلى الله عليه وسلم - ويتكلم على تفسير تلك الألفاظ بأعيانها .

وهذه الطريق يسلكها من لا ينازع في ثبوت الألفاظ من المسلمين .

وأما الجمهور الذين يقولون بتبديل هذه الألفاظ فيسلكون هذه الطريق ويسلكون أيضا بيان عدم تواتر الألفاظ بل بيان التبديل في ألفاظها .

التالي السابق


الخدمات العلمية