[ ص: 410 ] فقال الحاكي عنهم : فقلت لهم : إن قال قائل : إن التبديل والتغيير يجوز أن يكون بعد هذا القول فقالوا : إنا نعجب من هؤلاء القوم على علمهم وذكائهم ومعرفتهم كيف يحتجون علينا بمثل هذا القول وذلك أنا أيضا إذا احتججنا عليهم بمثل هذا القول وقلنا : إن الكتاب الذي في أيديهم يومنا هذا قد غيروه وبدلوه وكتبوا فيه ما أرادوا واشتهوا هل كانوا يجوزون كلامنا ؟ قال الحاكي عنهم : فقلت لهم : هذا مما لا يجوز ولا يمكن أحدا أن يقوله ، ولا يمكن أن يتغير منه إلى آخر الفصل وسيأتي بألفاظ بعد هذا .
والجواب أن هذا السائل النصراني الذي ذكر عن المسلمين سؤالا لا يقولونه وعن علماء النصارى جوابه هو وهم بنوا كلامهم على أصلين فاسدين .
أحدهما : أن الرسول ثبت ما معهم ونفى عن كتبهم التي بين أيديهم التهم والتبديل والتغيير لها ومقصودهم بذلك لا يتم إلا إذا نفى التبديل عن لفظها ومعناها وهذا مما يعلم كل عاقل أن الرسول لم ينفه عنها بل النقل المتواتر عنه بنقيض ذلك وهم أيضا وكل عاقل [ ص: 411 ] يعلم أن الكتب التي بأيديهم في تفسيرها من النصارى وبين النصارى واليهود ما يوجب القطع بأن كثيرا من ذلك مبدل محرف وكذلك وقع في تغيير شرائع هذه الكتب ، فإن الكتب تضمنت أصلين : الإخبار والأمر . والإيمان بها لا يتم إلا بتصديقها فيما أخبرت وإيجاب طاعتها فيما أوجبته . الاختلاف والاضطراب بين فرق
وأهل الكتاب يكذبون بكثير مما أخبرت ولا يوجبون طاعتها في كثير مما أوجبته وأمرت به وكل فرقة منهم تشهد على الفرقة الأخرى بمثل ذلك .
والنصارى لهم سبع مجامع مشهورة عندهم وهم في كل [ ص: 412 ] مجمع يلعنون طائفة منهم كبيرة ويكفرونهم ويقولون عنهم أنهم كذبوا ببعض ما في تلك الكتب ولم يوجبوا طاعة بعض أمرها وتلك الطائفة تشهد على الأخرى بأنها كذبت ببعض ما فيها ، ثم النسطورية والملكية واليعقوبية كل طائفة تكفر الأخرى وتلعنها وتشهد عليها أنها مكذبة ببعض ما في النبوات غير موجبة لطاعة بعض ما فيها بل اختلافهم في نفس التوحيد والرسالة فزعم كل فريق منهم أن فرقهم الثلاثة المشهورة المسيح جاء بما هم عليه والمسيح - عليه السلام - وجميع الرسل بريئون من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا وبريئون ممن يقول على الله غير الحق أو يقول على الله ما لا يعلم وبريئون من كل قول باطل يقال على الله - عز وجل - وإن كان قائله مخطئا لم يتعمد الكذب .
وفي مقالات النصارى من هذه الأنواع ما يطول وصفه وقد بسط في غير هذا الموضع .
[ ص: 413 ] وإذا عرفت أن جميع الطوائف من المسلمين واليهود والنصارى يشهدون أنه قد وقع في هذه الكتب تحريف وتبديل في معانيها وتفاسيرها وشرائعها فهذا القدر كاف وهم من حين بعث محمد - صلى الله عليه وسلم - صار كل من لم يؤمن به كافرا بخلاف حال النصارى قبل مبعث محمد - صلى الله عليه وسلم - ، فإنه كان فيهم من هو متبع لدين المسيح والمسلمون وإن كان فيهم من حرف الدين وبدله فجمهورهم خالفوا هؤلاء فلا يزال فيهم طائفة ظاهرة على الحق لا يضرهم من خالفهم وخذلهم حتى تقوم الساعة بخلاف النصارى ، فإنهم كفروا جميعهم ; كما كفرت اليهود بتكذيب المسيح .
المسيح ولا غيره ولا يقول عاقل مثل زعمهم أن جميع بني والمسلمون يثبتون بالدلائل الكثيرة أنهم بدلوا معاني التوراة والإنجيل والزبور وغيرهم من نبوات الأنبياء وابتدعوا شرعا لم يأت به آدم من الأنبياء والرسل وغيرهم كانوا في الجحيم في حبس الشيطان لأجل أن أباهم آدم أكل من الشجرة وأنهم إنما تخلصوا من ذلك لما صلب المسيح .
[ ص: 414 ] فإن هذا الكلام لو نقله ناقل عن بعض الأنبياء لقطعنا بكذبه عليهم فكيف وهذا الكلام ليس منقولا عندهم عن أحد من الأنبياء وإنما ينقلونه عمن ليس قوله حجة لازمة ، فإن كثيرا من دينهم مأخوذ عن رؤوسهم الذين ليسوا بأنبياء .
فإذا قطعنا بكذب من ينقله عن الأنبياء فكيف إذا لم ينقله عنهم وذلك أن الأنبياء - عليهم السلام - يخبرون الناس بما تقصر عقولهم عن معرفته لا بما يعرفون أنه باطل ممتنع فيخبرونهم [ ص: 415 ] بمحيرات العقول لا محالات العقول وآدم - عليه السلام - وإن كان أكل من الشجرة فقد تاب الله عليه واجتباه وهداه .
قال - تعالى - : وعصى آدم ربه فغوى ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى وقال - تعالى - : فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم وليس عند أهل الكتاب في كتبهم ما ينفي توبته وإنما قد يقول قائلهم إنا لا نعلم أنه تاب أو ليس عندنا توبته وعدم العلم بشيء ليس علما بعدمه وعدم وجود الشيء في كتاب من كتب الله لا ينفي أن يكون في كتاب آخر ففي التوراة ما ليس في الإنجيل وفيهما ما ليس في الزبور وفي الإنجيل والزبور ما ليس في التوراة وفي سائر النبوات ما لا يوجد في هذه الكتب والقرآن لو كان دون التوراة والإنجيل والزبور والنبوات أو كان مثلها لأمكن أن يكون فيه ما ليس فيها فكيف إذا كان أفضل وأشرف وفيه من العلم أعظم مما في التوراة والإنجيل وقد بين الله تعالى فضله عليهما في غير موضع كقوله - تعالى - : الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه [ ص: 416 ] وقال - تعالى - : نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن وقال - تعالى - : وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه وسواء تاب آدم أو لم يتب فكيف يجوز أن يكون رسل الله الذين هم أفضل منه محبوسين في حبس الشيطان في جهنم بذنبه ؟ وإبراهيم خليل الرحمن كان أبوه كافرا ولم يؤاخذه الله بذنبه فكيف يجعله في جهنم في حبس الشيطان بسبب ذنب أبيه الأقصى آدم ؟ مع أنه كان نبيا ونوح - عليه السلام - قد مكث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاما يدعوهم إلى عبادة الله وحده وأغرق الله أهل الأرض بدعوته وجعل ذريته هم الباقين فكيف يكون في جهنم في حبس الشيطان لأجل ذنب آدم ؟ .
وموسى بن عمران الذي كلمه الله تكليما وأظهر على يديه من البراهين والآيات ما لم يظهر مثله على يدي المسيح وقتل نفسا لم يؤمر بقتلها فغفر الله له ذلك وله من المنزلة عند الله والكرامة ما لا يقدر قدره فكيف يكون في جهنم في حبس الشيطان .
ثم أي مناسبة بين الصلب الذي هو من أعظم الذنوب سواء [ ص: 417 ] صلبوا المسيح أو المشبه به وبين تخليص هؤلاء من الشيطان ، فإن الشيطان إن فعل ذلك بالذرية كان ظالما معتديا والله - عز وجل - قادر على منعه من ظلمهم بل وعلى عقوبته إذا لم ينته عن ظلمهم .
فلماذا أخر منعه من ظلمهم إلى زمن المسيح ؟ وهو سبحانه ولي المؤمنين وناصرهم ومؤيدهم وهم رسله الذين نصرهم على من عاداهم بل أهلك أعداءهم الذين هم جند الشيطان فكيف لا يمنع الشيطان بعد موتهم أن يظلمهم ويجعل أرواحهم في جهنم هذا إن قدر أن الشيطان كان قادرا على ذلك وكيف يجوز أن يجعل الشيطان بعد موت أنبيائه وأوليائه وسقوط التكليف عنهم واستحقاقهم كرامته وإحسانه وجنته بحكم وعده ومقتضى حكمته فجعله مسلطا على حبسهم في جهنم ؟ ! .
وإن قالوا : الرب - عز وجل - ما كان يقدر على تخليصهم من الشيطان مع علمه بأنه ظالم معتد عليهم بعد الموت إلا بأن يحتال عليه بإخفاء نفسه ليتمكن الشيطان منه ; كما يزعمون فهذا مع ما فيه من الكفر العظيم وجعل الرب سبحانه عاجزا ; كما جعلوه أولا ظالما فيه من التناقض ما يقتضي عظيم جهلهم الذي جعلوا به الرب جاهلا ، فإنهم يقولون أنه احتال على الشيطان ليأخذه بعدل ; كما احتال الشيطان على آدم بالحية فاختفى منه لئلا يعلم أنه ناسوت الإله [ ص: 418 ] وناسوت الإله لم يعمل خطيئة قط بخلاف غيره .
فلما أراد الشيطان أخذ روحه ليحبسه في جهنم كسائر من مضى وهو لم يعمل خطيئة استحق الشيطان أن يأخذه الرب ويخلص الذرية من حبسه .
وهذا تجهيل منهم للرب - سبحانه وتعالى - عما يقولون مع تعجيزه وتظليمه ، فإنه إن كان هو سلط الشيطان على بني آدم كما يقولون . فلا فرق بين ناسوت المسيح وغيره إذ الجميع بني آدم ، وأيضا فإذا قدر أن الناسوت يدفع الشيطان عن نفسه بحق ، فإنهم يقولون أنه دخل الجحيم وأخرج منه ذرية آدم .
فيقال : إن كان تسلط الشيطان على حبسهم في الجحيم بحق لأجل ذنوبهم مع ذنب أبيهم لم يجز إخراجهم لأجل سلامة ناسوت المسيح من الذنب وإن كانوا مظلومين مع الشيطان وجب تخليصهم قبل صلب الناسوت ولم يجز تأخير ذلك فليس في مجرد سلامة المسيح من الذنوب ما يوجب سلامة غيره وإن قالوا إنه كان بدون تسلطه على صلبه عاجزا عن دفعه فهو مع تسلطه على صلبه أعجز وأعجز .
الأصل الثاني : الفاسد الذي بنوا عليه سؤالهم الذي جعلوه من جهة المسلمين وجوابهم ظنهم أن المسلمين يقولون : إن هذه الكتب حرفت ألفاظ جميع النسخ الموجودة منها بعد مبعث محمد - صلى الله عليه وسلم - .
[ ص: 419 ] وهذا مما لا يقوله المسلمون ، ولكن قد يقول بعضهم : أنه حرف بعد مبعث محمد - صلى الله عليه وسلم - ألفاظ بعض النسخ ، فإن الجمهور الذين يقولون إن بعض ألفاظها حرفت منهم من يقول كان هذا قبل المبعث .
ومنهم من يقول كان بعده ومنهم من يثبت الأمرين أو يجوزهما ، ولكن لا يقول : إنه حرفت ألفاظ جميع النسخ الموجودة في مشارق الأرض ومغاربها ، كما حكاه هذا الحاكي عنهم ، ولكن علماء المسلمين وعلماء أهل الكتاب متفقون على وقوع التحريف في المعاني والتفسير .
وإن كانت كل طائفة تزعم أن الأخرى هي التي حرفت المعاني .
وأما ألفاظ الكتب فقد ذهبت طائفة من علماء المسلمين إلى أن ألفاظها لم تبدل ; كما يقول ذلك من يقوله من أهل الكتاب .
وذهب كثير من علماء المسلمين وأهل الكتاب إلى أنه بدل بعض ألفاظها .
وهذا مشهور عند كثير من علماء المسلمين وقاله أيضا كثير من علماء أهل الكتاب .
حتى في صلب المسيح ذهبت طائفة من النصارى إلى أنه إنما [ ص: 420 ] صلب الذي شبه بالمسيح ; كما أخبر به القرآن وإن الذين أخبروا بصلبه كانوا قد أخبروا بظاهر الأمر ، فإنه لما ألقي شبهه على المصلوب ظنوا أنه هو المسيح أو تعمدوا الكذب ، ثم هؤلاء منهم الذين يقولون : إن في ألفاظ الكتب ما هو مبدل .
وفيهم من يجعل المبدل من التوراة والإنجيل كثيرا منهما وربما جعل بعضهم المبدل أكثرهما لا سيما الإنجيل ، فإن الطعن فيه أكثر وأظهر منه في التوراة .
ومن هؤلاء من يسرف حتى يقول : أنه لا حرمة لشيء منهما بل يجوز الاستنجاء بهما .
ومنهم من يقول الذي بدلت ألفاظه قليل منهما وهذا أظهر .
والتبديل في الإنجيل أظهر ، بل كثير من الناس يقول هذه . الأناجيل ليس فيها من كلام الله إلا القليل
والإنجيل الذي هو كلام الله ليس هو هذه الأناجيل .