الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح

ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

صفحة جزء
[ ص: 68 ] وأما قوله : لا حجة بيننا وبينكم .

الآية ، فهذا ليس خطابا للنصارى خصوصا ، بل هو خطاب للجميع ، وهؤلاء النصارى ظنوا أن معنى هذا لا تحاجوا أهل الكتاب ، كما ظنوا في قوله تعالى :

ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم .

أن معناه : لا تجادلوا أهل الكتاب - أي النصارى - إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا ، أي اليهود اهـ .

وهذا تحريف كلم الله عن مواضعه  ، وهو شبيه بتحريفهم لما عندهم من التوراة والإنجيل والزبور ، وسائر النبوات ، فإنهم أعظم تسلطا على تحريف معانيها منهم على تحريف معاني [ ص: 69 ] القرآن ، إذ كان القرآن له أمة تحفظه ، وتعرف معانيه ، وتذب عنه من يحرف لفظه أو معناه .

وأما تلك الكتب فليس لها من يذب عن لفظها ومعناها ، فلهذا عظم تحريفهم لها ، وكان أعظم من تحريفهم للقرآن .

ومما يبين أن هذا الخطاب ليس مختصا بالنصارى أن هذه السورة مكية ، والسور المكية كانت تتناول من لا يقرأ الكتاب ، لا تختص بأهل الكتاب ، بل كانت تعم الأمم أو تختص بالمشركين .

والسور المدنية خطابها تارة لأهل الكتاب ، وتارة تختص بالمؤمنين وتارة تعم ، وقد قال - تعالى - :

كبر على المشركين ما تدعوهم إليه الله يجتبي إليه من يشاء ويهدي إليه من ينيب .

وقال - تعالى - :

وما تفرقوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم ولولا كلمة سبقت من ربك إلى أجل مسمى لقضي بينهم وإن الذين أورثوا الكتاب من بعدهم لفي شك منه مريب .

[ ص: 70 ] فالخطاب إما أن يعم المشركين ، وأهل الكتاب ، أو يخص المشركين ، وأهل الكتاب : اليهود والنصارى ، وبكل تقدير فلا وجه لتخصيص النصارى به .

وأما قوله - تعالى - :

لا حجة بيننا وبينكم .

فهو نظير قوله تعالى :

قل أتحاجوننا في الله وهو ربنا وربكم ولنا أعمالنا ولكم أعمالكم ونحن له مخلصون .

وقوله :

فإن حاجوك فقل أسلمت وجهي لله ومن اتبعن وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين أأسلمتم فإن أسلموا فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما عليك البلاغ .

فالحجة اسم لما يحتج به من حق وباطل كقوله .

لئلا يكون للناس عليكم حجة إلا الذين ظلموا منهم .

فإن الظالمين يحتجون عليكم بحجة باطلة كقول المشركين لما حولت القبلة إلى الكعبة قد عاد إلى قبلتكم فسوف يعود إلى ملتكم ، [ ص: 71 ] فهذه حجة داحضة من الظالمين .

ومما يبين ذلك بعد قوله بعد ذلك :

والذين يحاجون في الله من بعد ما استجيب له حجتهم داحضة عند ربهم وعليهم غضب ولهم عذاب شديد .

فسماها حجة وجعلها داحضة ، وهؤلاء الذين يحاجون في الله من بعد ما استجيب له هم الكفار من المشركين وأهل الكتاب .

فهم يحاجون المؤمنين ليردوهم عن دينهم ، وقال عن النصارى :

فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين .

فكان الكفار يحاجون المؤمنين حتى يردوهم عن دينهم ، كما يؤذونهم ، فهؤلاء حجتهم داحضة عند ربهم ، وعليهم غضب ، ولهم عذاب شديد .

ومحاجتهم للمؤمنين من باب الظلم لهم والعدوان عليهم وقول الباطل ، فأمره - تعالى - أن يقول : لا حجة بيننا وبينكم .

أي ليس لكم أن تظلمونا ، وتعتدوا علينا بحجتكم الداحضة ، [ ص: 72 ] وليس المراد بذلك أنا نحن لا نحاجكم ، وندعوكم إلى الحق بالحجج الصحيحة .

فإنه - تعالى - قال :

ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن .

فأمره - تعالى - أن يجادل أهل دعوته مطلقا من المشركين ، وأهل الكتاب بالتي هي أحسن .

وقد قال - تعالى - :

ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم .

فإن الظالم باغ مستحق للعقوبة ، فيجوز أن يقابل بما يستحقه من العقوبة ، لا يجب الاقتصار معه على التي هي أحسن ، بخلاف من لم يظلم ، فإنه لا يجادل إلا بالتي هي أحسن .

وأهل الكتاب اسم يتناول اليهود والنصارى ، كما في نظائره في القرآن كقوله - تعالى - :

وطعام الذين أوتوا الكتاب الآية . وقوله :

[ ص: 73 ] لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين .

وأمثال ذلك .

والظالم يكون ظالما بترك ما تبين له من الحق واتباع ما تبين له أنه باطل ، والكلام بلا علم فإذا ظهر له الحق فعند عنه كان ظالما .

وذلك مثل الألد في الخصام قال - تعالى - :

ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام .

وقال :

يجادلونك في الحق بعد ما تبين .

وقال :

ها أنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم .

التالي السابق


الخدمات العلمية