[ ص: 68 ] وأما قوله : لا حجة بيننا وبينكم .
الآية ، فهذا ليس خطابا للنصارى خصوصا ، بل هو خطاب للجميع ، وهؤلاء النصارى ظنوا أن معنى هذا لا تحاجوا أهل الكتاب ، كما ظنوا في قوله تعالى :
ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم .
أن معناه : لا تجادلوا أهل الكتاب - أي النصارى - إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا ، أي اليهود اهـ .
وهذا ، وهو شبيه بتحريفهم لما عندهم من التوراة والإنجيل والزبور ، وسائر النبوات ، فإنهم أعظم تسلطا على تحريف معانيها منهم على تحريف معاني [ ص: 69 ] القرآن ، إذ كان القرآن له أمة تحفظه ، وتعرف معانيه ، وتذب عنه من يحرف لفظه أو معناه . تحريف كلم الله عن مواضعه
وأما تلك الكتب فليس لها من يذب عن لفظها ومعناها ، فلهذا عظم تحريفهم لها ، وكان أعظم من تحريفهم للقرآن .
ومما يبين أن هذا الخطاب ليس مختصا بالنصارى أن هذه السورة مكية ، والسور المكية كانت تتناول من لا يقرأ الكتاب ، لا تختص بأهل الكتاب ، بل كانت تعم الأمم أو تختص بالمشركين .
والسور المدنية خطابها تارة لأهل الكتاب ، وتارة تختص بالمؤمنين وتارة تعم ، وقد قال - تعالى - :
كبر على المشركين ما تدعوهم إليه الله يجتبي إليه من يشاء ويهدي إليه من ينيب .
وقال - تعالى - :
وما تفرقوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم ولولا كلمة سبقت من ربك إلى أجل مسمى لقضي بينهم وإن الذين أورثوا الكتاب من بعدهم لفي شك منه مريب .
[ ص: 70 ] فالخطاب إما أن يعم المشركين ، وأهل الكتاب ، أو يخص المشركين ، وأهل الكتاب : اليهود والنصارى ، وبكل تقدير فلا وجه لتخصيص النصارى به .
وأما قوله - تعالى - :
لا حجة بيننا وبينكم .
فهو نظير قوله تعالى :
قل أتحاجوننا في الله وهو ربنا وربكم ولنا أعمالنا ولكم أعمالكم ونحن له مخلصون .
وقوله :
فإن حاجوك فقل أسلمت وجهي لله ومن اتبعن وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين أأسلمتم فإن أسلموا فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما عليك البلاغ .
فالحجة اسم لما يحتج به من حق وباطل كقوله .
لئلا يكون للناس عليكم حجة إلا الذين ظلموا منهم .
فإن الظالمين يحتجون عليكم بحجة باطلة كقول المشركين لما حولت القبلة إلى الكعبة قد عاد إلى قبلتكم فسوف يعود إلى ملتكم ، [ ص: 71 ] فهذه حجة داحضة من الظالمين .
ومما يبين ذلك بعد قوله بعد ذلك :
والذين يحاجون في الله من بعد ما استجيب له حجتهم داحضة عند ربهم وعليهم غضب ولهم عذاب شديد .
فسماها حجة وجعلها داحضة ، وهؤلاء الذين يحاجون في الله من بعد ما استجيب له هم الكفار من المشركين وأهل الكتاب .
فهم يحاجون المؤمنين ليردوهم عن دينهم ، وقال عن النصارى :
فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين .
فكان الكفار يحاجون المؤمنين حتى يردوهم عن دينهم ، كما يؤذونهم ، فهؤلاء حجتهم داحضة عند ربهم ، وعليهم غضب ، ولهم عذاب شديد .
ومحاجتهم للمؤمنين من باب الظلم لهم والعدوان عليهم وقول الباطل ، فأمره - تعالى - أن يقول : لا حجة بيننا وبينكم .
أي ليس لكم أن تظلمونا ، وتعتدوا علينا بحجتكم الداحضة ، [ ص: 72 ] وليس المراد بذلك أنا نحن لا نحاجكم ، وندعوكم إلى الحق بالحجج الصحيحة .
فإنه - تعالى - قال :
ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن .
فأمره - تعالى - أن يجادل أهل دعوته مطلقا من المشركين ، وأهل الكتاب بالتي هي أحسن .
وقد قال - تعالى - :
ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم .
فإن الظالم باغ مستحق للعقوبة ، فيجوز أن يقابل بما يستحقه من العقوبة ، لا يجب الاقتصار معه على التي هي أحسن ، بخلاف من لم يظلم ، فإنه لا يجادل إلا بالتي هي أحسن .
وأهل الكتاب اسم يتناول اليهود والنصارى ، كما في نظائره في القرآن كقوله - تعالى - :
وطعام الذين أوتوا الكتاب الآية . وقوله :
[ ص: 73 ] لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين .
وأمثال ذلك .
والظالم يكون ظالما بترك ما تبين له من الحق واتباع ما تبين له أنه باطل ، والكلام بلا علم فإذا ظهر له الحق فعند عنه كان ظالما .
وذلك مثل الألد في الخصام قال - تعالى - :
ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام .
وقال :
يجادلونك في الحق بعد ما تبين .
وقال :
ها أنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم .