الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح

ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

صفحة جزء
[ ص: 100 ] ومن تدبر حال اليهود والنصارى مع المسلمين ، وجد اليهود والنصارى متقابلين هؤلاء في طرف ضلال ، وهؤلاء في طرف يقابله ، والمسلمون هم الوسط .

وذلك في التوحيد ، والأنبياء ، والشرائع ، والحلال والحرام والأخلاق وغير ذلك .

فاليهود يشبهون الخالق بالمخلوق في صفات النقص المختصة بالمخلوق التي يجب تنزيه الرب سبحانه عنها كقول من قال منهم : إنه فقير ، وإنه بخيل ، وإنه تعب لما خلق السماوات والأرض ، والنصارى يشبهون المخلوق بالخالق في صفات الكمال المختصة بالخالق التي ليس له فيها مثل ، كقولهم إن المسيح هو الله ، وابن الله .

وكل من القولين يستلزم الآخر .

والنصارى أيضا يصفون اللاهوت بصفات النقص التي يجب تنزيه الرب عنها ، ويسبون الله سبا ما سبه إياه أحد من البشر ، كما كان معاذ بن جبل يقول : لا ترحموهم فإنهم قد سبوا الله سبة ما سبه [ ص: 101 ] إياها أحد من البشر .

واليهود تزعم أن الله يمتنع منه أن ينسخ ما شرعه ، كما يمتنع ما لا يدخل في القدرة أو ينافي العلم والحكمة .

والنصارى يجوزون لأكابرهم أن ينسخوا شرع الله الذي بعث به رسله ، فيحللوا ما حرم ، كما حللوا الخنزير ، وغيره من الخبائث ، بل لم يحرموا شيئا ، ويحرمون ما حلل ، كما يحرمون في رهبانيتهم التي ابتدعوها ، وحرموا فيها من الطيبات ما أحله الله ، ويسقطون ما أوجب كما أسقطوا الختان وغيره ، وأسقطوا أنواع الطهارة من الغسل ، وإزالة النجاسة وغير ذلك .

ويوجبون ما أسقط ، كما أوجبوا من القوانين ما لم يوجبه الله وأنبياؤه .

والمسلمون وصفوا الرب بما يستحقه من صفات الكمال ، ونزهوه عن النقص ، وأن يكون له مثل ، فوصفوه بما وصف به نفسه ، وبما وصفته به رسله من غير تحريف ولا تعطيل ، ومن غير تكييف ولا تمثيل ، مع [ ص: 102 ] علمهم أنه ليس كمثله شيء لا في ذاته ، ولا في صفاته ، ولا في أفعاله .

وقالوا : ألا له الخلق والأمر ، فكما لا يخلق غيره لا يأمر غيره ، بل الدين كله له ، هو المعبود المطاع الذي لا يستحق العبادة إلا هو ، ولا طاعة لأحد إلا طاعته ، وهو ينسخ ما ينسخه من شرعه ، وليس لغيره أن ينسخ شرعه .

واليهود بالغوا في اجتناب النجاسات ، وتحريم الطيبات ، والنصارى استحلوا الخبائث ، وملابسة النجاسات ، والمسلمون أحل الله لهم الطيبات خلافا لليهود ، وحرم عليهم الخبائث ، خلافا للنصارى .


واليهود يبالغون في طهارة أبدانهم مع خبث قلوبهم والنصارى يدعون أنهم يطهرون قلوبهم مع نجاسة أبدانهم ، والمسلمون يطهرون أبدانهم وقلوبهم جميعا .

والنصارى لهم عبادات وأخلاق ، بلا علم ومعرفة ولا ذكاء ، واليهود لهم ذكاء وعلم ومعرفة بلا عبادات ولا أخلاق حسنة .

والمسلمون جمعوا بين العلم النافع ، والعمل الصالح ، بين الزكا والذكاء ، فإن الله أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ، فالهدى [ ص: 103 ] يتضمن العلم النافع ، ودين الحق يتضمن العمل الصالح ليظهره على الدين كله ، والظهور يكون بالعلم واللسان ليبين أنه حق وهدى ، ويكون باليد والسلاح ليكون منصورا مؤيدا ، والله أظهره هذا الظهور فهم أهل الصراط المستقيم ، صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا ، غير المغضوب عليهم الذين يعرفون الحق ، ولا يعملون به ، كاليهود ، ولا الضالين الذين يعملون ويعبدون ويزهدون بلا علم كالنصارى .

واليهود قتلوا النبيين ، والذين يأمرون بالقسط من الناس ، والنصارى اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم .

والمسلمون اعتدلوا فآمنوا بالله وملائكته وكتبه ، ورسله ، ولم يفرقوا بين أحد من رسله وآمنوا بجميع النبيين ، وبكل كتاب أنزله الله فلم يكذبوا الأنبياء ولا سبوهم ولا غلوا فيهم ولا عبدوهم ، وكذلك أهل العلم والدين لا يبخسونهم حقهم ولا غلوا فيهم .

واليهود يغضبون لأنفسهم وينتقمون ، والنصارى لا يغضبون لربهم ولا ينتقمون .

والمسلمون المعتدلون المتبعون لنبيهم يغضبون لربهم ويعفون عن حظوظهم كما في الصحيحين عن عائشة - رضي الله عنها - أنها [ ص: 104 ] قالت : ما ضرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيده خادما له ، ولا امرأة ولا شيئا قط ، إلا أن يجاهد في سبيل الله ، ولا نيل منه شيء قط فانتقم لنفسه ، إلا أن تنتهك محارم الله فينتقم لله .

وفي الصحيحين عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - ، قال : خدمت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عشر سنين ، فما قال لي : أف قط ، وما قال لي لشيء فعلته : لم فعلته ؟ ولا لشيء لم أفعله : لم لم تفعله ؟ وكان بعض أهله إذا عاتبني على شيء يقول :

" دعوه فلو قضي شيء لكان " .

[ ص: 105 ] هذا في حق نفسه ، وأما في حدود الله ، ففي الصحيحين عن عائشة - رضي الله عنها - :

( أن قريشا أهمهم شأن المخزومية التي سرقت ، فقالوا : من يكلم فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ( فقالوا من يجترئ عليه إلا أسامة بن زيد حب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ) فكلمه فيها أسامة ، فقال : يا أسامة ، أتشفع في حد من حدود الله ، إنما أهلك من كان قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه ، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحدود ، والذي نفسي بيده لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها ) .

وقد وصف الله أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - بأنهم أنفع الأمم للخلق ، فقال :

كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله ولو آمن أهل الكتاب لكان خيرا لهم منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون .

[ ص: 106 ] ففي أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - من الأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر الذي فيه صلاح العباد في المعاش والمعاد ما لم يوجد مثله في الأمتين .

التالي السابق


الخدمات العلمية