الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
      معلومات الكتاب

      معارج القبول بشرح سلم الوصول إلى علم الأصول

      الحكمي - حافظ بن أحمد الحكمي

      صفحة جزء
      ( إثبات البصر والسمع لله عز وجل )


      وهو الذي يرى دبيب الذر في الظلمات فوق صم الصخر [ ص: 234 ]     وسامع للجهر والإخفات
      بسمعه الواسع للأصوات

      .

      في هذين البيتين إثبات البصر لله - تعالى - المحيط بجميع المبصرات ، وإثبات السمع له المحيط بجميع المسموعات ، وهاتان الصفتان من صفات ذاته - تعالى - وهما متضمن اسميه " السميع البصير " ، قال الله عز وجل : ( إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل إن الله نعما يعظكم به إن الله كان سميعا بصيرا ) ، ( النساء : 58 ) ، وقال تعالى : ( ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ) ، ( الشورى : 11 ) ، وقال تعالى : ( ذلك بأن الله يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل وأن الله سميع بصير ) ، ( الحج : 61 ) ، وقال تعالى : ( قل الله أعلم بما لبثوا له غيب السماوات والأرض أبصر به وأسمع ) ، ( الكهف : 26 ) .

      قال ابن جرير : وذلك بمعنى المبالغة في المدح ، كأنه قيل ما أبصره وأسمعه ، وتأويل الكلام ما أبصر الله لكل موجود ، وما أسمعه لكل مسموع ، لا يخفى عليه من ذلك شيء ، ثم روى عن قتادة في قوله تعالى : ( أبصر به وأسمع ) فلا أحد أبصر من الله ولا أسمع ، وقال ابن زيد : ( أبصر به وأسمع ) يرى أعمالهم ، ويسمع ذلك منهم ، إنه كان سميعا بصيرا .

      وقال البغوي رحمه الله تعالى : أي ما أبصر الله بكل موجود وأسمعه لكل مسموع ، أي لا يغيب عن سمعه وبصره شيء . وقال - تعالى - لموسى وهارون - عليهما السلام : ( إنني معكما أسمع وأرى ) ، ( طه : 46 ) ، قال ابن عباس رضي الله عنهما : أسمع دعاءكما فأجيبه ، وأرى ما يراد بكما فأمنعه ، لست بغافل عنكما ، فلا تهتما .

      وقال - تعالى - لهما في موضع آخر : ( كلا فاذهبا بآياتنا إنا معكم مستمعون ) ، ( الشورى : 15 ) ، وقال تعالى : ( أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم بلى ورسلنا لديهم يكتبون ) ، ( الزخرف : 80 ) ، وقال تعالى : ( وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ) ، ( التوبة : 105 ) ، وقال [ ص: 235 ] تعالى : ( ألم يعلم بأن الله يرى ) ، ( العلق : 14 ) ، وقال تعالى : ( الذي يراك حين تقوم وتقلبك في الساجدين إنه هو السميع العليم ) ، ( الشعراء : 218 ، 219 ، 220 ) ، وقال تعالى : ( لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء سنكتب ما قالوا ) ، ( آل عمران 181 ) ، وقال تعالى : ( قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله والله يسمع تحاوركما إن الله سميع بصير ) ، ( المجادلة : 1 ) ، وعن عائشة - رضي الله عنها - قالت : الحمد لله الذي وسع سمعه الأصوات ، لقد جاءت المجادلة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - تكلمه ، وأنا في ناحية البيت ما أسمع ما تقول ، فأنزل الله عز وجل : ( قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله والله يسمع تحاوركما إن الله سميع بصير ) . رواه البخاري في كتاب التوحيد تعليقا ، وأخرجه النسائي ، وابن ماجه ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وفي رواية له عنها - رضي الله عنها - أنها قالت : تبارك الذي أوعى سمعه كل شيء ، إني لأسمع كلام خولة بنت ثعلبة ويخفى علي بعضه ، وهي تشتكي زوجها إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهي تقول : يا رسول الله ، أكل مالي ، وأفنى شبابي ، ونثرت له بطني ، حتى إذا كبرت سني وانقطع ولدي ظاهر مني ، اللهم إني أشكو إليك . قالت : فما برحت حتى نزل جبريل بهذه الآية : ( قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله والله يسمع تحاوركما ) ، قالت : وزوجها أوس بن الصامت . وقال البخاري - رحمه الله تعالى - في كتاب التوحيد : باب قول الله تعالى : ( وكان الله سميعا بصيرا ) ، وذكر خبر عائشة هذا معلقا .

      وروي عن أبي موسى - رضي الله عنه - قال : كنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في سفر ، فكنا إذا علونا كبرنا ، فقال : أربعوا على أنفسكم [ ص: 236 ] فإنكم لا تدعون أصم ولا غائبا ، تدعون سميعا بصيرا قريبا ، ثم أتى علي وأنا أقول في نفسي : لا حول ولا قوة إلا بالله ، فقال : يا عبد الله بن قيس ، قل لا حول ولا قوة إلا بالله ، فإنها كنز من كنوز الجنة .

      وعن عائشة - رضي الله عنها - قالت : قال النبي صلى الله عليه وسلم : إن جبريل - عليه السلام - ناداني ، قال : إن الله سمع قول قومك وما ردوا عليك . وروي في باب قوله تعالى : ( وما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعكم ولا أبصاركم ولا جلودكم ولكن ظننتم أن الله لا يعلم كثيرا مما تعملون ) ، ( فصلت : 22 ) ، عن عبد الله - رضي الله عنه - قال : اجتمع عند البيت ثقفيان وقرشي ، أو قرشيان وثقفي ، كثيرة الشحم بطونهم ، قليلة الفهم قلوبهم ، فقال أحدهم : أترون أن الله يسمع ما نقول ؟ قال الآخر : يسمع إن جهرنا ، ولا يسمع إن أخفينا . وقال الآخر : إن كان يسمع إذا جهرنا ، فإنه يسمع إذا أخفينا . فأنزل الله تعالى : ( وما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعكم ولا أبصاركم ولا جلودكم ) الآية .

      وروى أبو داود ، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه قرأ هذه الآية ( إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها ) . . . إلى قوله تعالى : ( سميعا بصيرا ) ، قال : رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يضع إبهامه على أذنه والتي تليها على عينه ، قال أبو هريرة رضي الله عنه : رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرؤها ويضع إصبعيه . قال ابن يونس : قال المقرئ : يعني ( إن الله سميع بصير ) يعني أن لله سمعا وبصرا . قال أبو داود رحمه الله تعالى : وهذا رد على الجهمية اهـ .

      قلت : يعني أبو داود - رحمه الله - أن الجهمية لا يثبتون لله - تعالى - اسما ولا [ ص: 237 ] صفة مما سمى ووصف نفسه - تعالى - به ، وأثبته له رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلا يثبتون أن الله هو السميع البصير ، ولا أنه يسمع ويرى ويبصر ، فرارا بزعمهم من التشبيه بالمخلوقين ، فنزهوه عن صفات كماله التي وصف بها نفسه ، وهو أعلم بنفسه وبغيره ، وشبهوه بالأصنام التي لا تسمع ولا تبصر ، قال الله - عز وجل - عن خليله إبراهيم - عليه السلام - في دعوته أباه إلى الله عز وجل : ( ياأبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا ) ، ( مريم : 42 ) . وقد أثبت الجهمية - قبحهم الله - حجة لعباد الأصنام ، وجوابا لإنكار خليل الله وجميع رسله عليهم ، فكان للكفار أن يقولوا : ومعبودكم أيضا لا يسمع ولا يبصر ، تعالى الله عما يقول الظالمون والجاحدون علوا كبيرا .

      وقالت المعتزلة : سميع بلا سمع ، بصير بلا بصر ، وأطردوا جميع أسمائه هكذا ، فأثبتوا أسماء ونفوا ما تتضمنه من صفات الكمال ، وهو عبارة عن إثبات الألفاظ دون المعاني ، وقولهم في الحقيقة راجع إلى قول الجهمية ، مخالف كل منهما للكتاب والسنة والعقول الصحيحة والفطر السليمة ، وهدى الله - تعالى - بفضله أهل السنة لفهم كتابه ، وآمنوا بما وصف به نفسه ، وأقروا به كما أخبر ونفوا عنه التشبيه ، كما جمع - تعالى - بينهما في قوله عز وجل : ( ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ) .

      التالي السابق


      الخدمات العلمية