كلامه جل عن الإحصاء والحصر والنفاد والفناء لو صار أقلاما جميع الشجر
والبحر تلقى فيه سبعة أبحر والخلق تكتبه بكل آن
فنت وليس القول منه فان
قال الله تبارك وتعالى : ( قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مددا ) ، ( الكهف : 109 ) ، وقال تعالى : ( ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله إن الله عزيز حكيم ) ، ( لقمان : 27 ) .
قال ابن كثير رحمه الله تعالى : يقول الله - تعالى - مخبرا عن عظمته وكبريائه ، وجلاله وأسمائه الحسنى وصفاته العلى ، [ ص: 256 ] ، كما قال سيد البشر وخاتم الرسل : وكلماته التامة التي لا يحيط بها أحد ، ولا اطلاع لبشر على كنهها وإحصائها . فقال تعالى : ( لا أحصي ثناء عليك ، أنت كما أثنيت على نفسك ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله ) ، أي ولو أن جميع أشجار الأرض جعلت أقلاما ، وجعل البحر مدادا ، وأمده سبعة أبحر معه ، فكتبت بها كلمات الله - تعالى - الدالة على عظمته وصفاته وجلاله ، لتكسرت الأقلام ، ونفد ماء البحر ، ولو جاء أمثالها مددا ، وإنما ذكرت السبعة على وجه المبالغة ، ولم يرد الحصر ، ولا أن ثم سبعة أبحر موجودة محيطة بالعالم ، كما يقوله من تلقاه من الإسرائيليات التي لا تصدق ولا تكذب ، بل كما قال - تعالى - في الآيات الأخرى : ( قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مددا ) ، فليس المراد بقوله : ( بمثله ) آخر فقط ، بل بمثله ، ثم بمثله ، ثم بمثله ، ثم هلم جرا ; لأنه لا حصر لآيات الله وكلماته .
قال : لو جعل شجر الأرض أقلاما ، وجعل البحر مدادا ، وقال الله تعالى : إن من أمري كذا ، ومن أمري كذا ، لنفد ماء البحر ، وتكسرت الأقلام . وقال الحسن البصري قتادة : قال المشركون : إنما هذا كلام يوشك أن ينفد ، فقال الله تعالى : ( ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام ) ، أي لو كان شجر الأرض أقلاما ، ومع البحر سبعة أبحر ، ما كانت لتنفد عجائب ربي وحكمته وخلقه وعلمه . وقال - رحمه الله : إن مثل علم العباد كلهم في علم الله كقطرة من ماء البحور كلها ، وقد أنزل الله ذلك : ( الربيع بن أنس ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام ) الآية ، يقول : لو كان البحر مدادا لكلمات الله ، والأشجار كلها أقلاما ، لانكسرت الأقلام وفني ماء البحر ، وبقيت كلمات الله قائمة لا يفنيها شيء ; لأن أحدا لا يستطيع أن يقدره قدره ، ولا يثني عليه كما ينبغي حتى يكون هو الذي يثني على نفسه ، إن ربنا كما يقول ، وفوق ما نقول .
قال : وقد روي أن هذه الآية نزلت جوابا لليهود ، قال رحمه الله تعالى : حدثني ابن إسحاق محمد بن [ ص: 257 ] أبي محمد ، عن ، أو سعيد بن جبير عكرمة ، عن رضي الله عنهما : ابن عباس يهود قالوا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة : يا محمد ، أرأيت قولك : ( وما أوتيتم من العلم إلا قليلا ) إيانا تريد أم قومك ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : كلاكما . قالوا : ألست تتلو فيما جاءنا ، أنا قد أوتينا التوراة فيها تبيان لكل شيء ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنها في علم الله قليل ، وعندكم من ذلك ما يكفيكم . وأنزل الله فيما سألوه عنه من ذلك : ( ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام ) الآية . أن أحبار
وهكذا روي عن عكرمة ، ، وهذا يقتضي أن هذه الآية مدنية لا مكية ، والمشهور أنها مكية ، والله أعلم . وعطاء بن يسار
وقوله : ( إن الله عزيز حكيم ) ، أي عزيز قد عز كل شيء وقهره وغلبه ، فلا مانع لما أراد ، ولا مخالف لأمره ، ولا معقب لحكمه ، حكيم في خلقه وأمره ، وأقواله وأفعاله ، وشرعه وجميع شئونه . انتهى .
جويرية - رضي الله عنها - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خرج من عندها ، ثم رجع بعد أن أضحى وهي جالسة ، فقال : ما زلت على الحال التي فارقتك عليها ؟ قالت : نعم . قال النبي صلى الله عليه وسلم : لقد قلت بعدك أربع كلمات ثلاث مرات ، لو وزنت بما قلت منذ اليوم ، لوزنتهن : سبحان الله وبحمده ، عدد خلقه ، ورضا نفسه ، وزنة عرشه ، ومداد كلماته . رواه وعن مسلم والأربعة ، - رضي الله عنه - قال : جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : يا رسول الله ، ما لقيت من عقرب لدغتني البارحة ؟ قال : أما لو قلت حين أمسيت [ ص: 258 ] : أعوذ بكلمات الله التامات التي لا يجاوزهن جبار ولا متكبر أبي هريرة . والأحاديث في الباب كثيرة ، والمقصود أن كلمات الله باقية لا تنفد أبدا ، تامة لا تنقص أبدا ، وذلك لأن كلامه صفته ، وليس من صفاته شيء ينفد ، ولذا أخبرنا - تعالى - أن جميع أشجار الأرض لو كانت أقلاما ، والبحار وأضعافها مدادا ، يكتب بها كلماته ، لنفدت كلها وكلماته لا تنفد ، وذلك لأن الأشجار والبحار مخلوقة ، والمخلوقات من لازمها النفاد والفناء ، وكلمات الله صفته ، وليس من صفاته شيء يفنى ، بل هو الباقي بأسمائه وصفاته أزلا وأبدا ، ( وعن كل شيء هالك إلا وجهه له الحكم وإليه ترجعون ) ، ( القصص : 88 ) .