الفصل السادس : حديث الوصية
فإن قلت : قد تقررت عصمته - صلى الله عليه وسلم - في أقواله في جميع أحواله ، وأنه لا يصح منه فيها خلف ، ولا اضطراب في عمد ولا سهو ولا صحة ولا مرض ولا جد ولا هزل ولا رضى ولا غضب . ولكن ما معنى الحديث في الذي حدثنا به وصيته - صلى الله عليه وسلم - القاضي الشهيد أبو علي - رحمه الله - ، قال : حدثنا القاضي أبو الوليد ، حدثنا أبو ذر ، حدثنا أبو محمد ، وأبو الهيثم ، وأبو إسحاق ، قالوا : حدثنا محمد بن يوسف ، حدثنا ، حدثنا محمد بن إسماعيل علي بن عبد الله ، حدثنا ، أخبرنا عبد الرزاق بن همام معمر ، عن ، عن الزهري ، عن عبيد الله بن عبد الله ، قال : ابن عباس
فقال بعضهم : إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد غلبه الوجع . . . الحديث . لما احتضر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وفي البيت رجال فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : هلموا أكتب لكم كتابا لن تضلوا بعده .
وفي رواية : . آتوني أكتب لكم كتابا لن [ ص: 524 ] تضلوا بعدي أبدا ، فتنازعوا فقالوا : ما له أهجر ! استفهموه ، فقال دعوني ، فإن الذي أنا فيه خير
وفي بعض طرقه : إن النبي - صلى الله عليه وسلم - يهجر .
وفي رواية : هجر . ويروى : أهجر . ويروى : أهجرا .
وفيه فقال عمر :
وكثر اللغط ، فقال : قوموا عني . إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد اشتد به الوجع ، وعندنا كتاب الله حسبنا .
وفي رواية : أهل البيت ، واختصموا ، فمنهم من يقول : قربوا يكتب لكم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كتابا .
ومنهم من يقول ما قال عمر . واختلف
قال أئمتنا في هذا الحديث : النبي - صلى الله عليه وسلم - غير معصوم من الأمراض ، وما يكون من عوارضها من شدة وجع وغشي ، ونحوه مما يطرأ على جسمه ، معصوم أن يكون منه من القول أثناء ذلك ما يطعن في معجزته ، ويؤدي إلى فساد في شريعته من هذيان أو اختلال كلام .
وعلى هذا لا يصح ظاهر رواية من روى في الحديث : هجر إذ معناه هذى يقال : هجر هجرا ، إذا هذى . وأهجر هجرا ، إذا أفحش ، وأهجر تعدية هجر ، وإنما الأصح ، والأولى أهجر ؟ على طريق الإنكار على من قال : لا يكتب .
وهكذا روايتنا فيه في صحيح البخاري من رواية جميع الرواة في حديث المتقدم ، وفي حديث الزهري محمد بن سلام ، عن عيينة ، وكذا ضبطه بخطه في كتابه ، وغيره من هذه الطرق ، وكذا رويناه عن الأصيلي مسلم في حديث سفيان وعن غيره .
وقد تحمل عليه رواية من رواه هجر على حذف ألف الاستفهام ، والتقدير :
أهجر ؟ أو أن يحمل قول القائل هجر أو أهجر دهشة من قائل ذلك ، وحيرة لعظيم ما شاهد من حال الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، وشدة وجعه ، وهو المقام الذي اختلف فيه عليه ، والأمر الذي هم بالكتاب فيه ، حتى لم يضبط هذا القائل لفظه ، وأجرى الهجر مجرى شدة الوجع ، لا أنه اعتقد أنه يجوز عليه الهجر ، كما حملهم الإشفاق على حراسته ، والله - تعالى - يقول : والله يعصمك من الناس [ المائدة : 67 ] ، ونحو هذا .
وأما على رواية : أهجرا ؟ وهي رواية في الصحيح في حديث أبي إسحاق المستملي ابن جبير ، عن ، من رواية ابن عباس قتيبة فقد يكون هذا راجعا إلى المختلفين عنده - صلى الله عليه وسلم - ، ومخاطبة [ ص: 525 ] لهم من بعضهم ، أي جئتم باختلافكم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وبين يديه هجرا ، ومنكرا من القول .
والهجر بضم الهاء : الفحش في المنطق .
وقد اختلف العلماء في معنى هذا الحديث ، وكيف اختلفوا بعد أمره لهم - عليه السلام - أن يأتوه بالكتاب ، فقال بعضهم : أوامر النبي - صلى الله عليه وسلم - يفهم إيجابها من ندبها من إباحتها بقرائن ، فلعله قد ظهر من قرائن قوله - صلى الله عليه وسلم - لبعضهم ما فهموا أنه لم تكن منه عزمة ، بل أمر رده إلى اختيارهم ، وبعضهم لم يفهم ذلك ، فقال : استفهموه ، فلما اختلفوا كف عنه ، إذا لم يكن عزمة ، ولما رأوه من صواب رأي عمر ، ثم هؤلاء قالوا ، ويكون امتناع عمر إما إشفاقا على النبي - صلى الله عليه وسلم - من تكليفه في تلك الحال إملاء الكتاب ، وأن تدخل عليه مشقة من ذلك ، كما قال : . إن النبي - صلى الله عليه وسلم - اشتد به الوجع
وقيل : خشي عمر أن يكتب أمورا يعجزون عنها فيحصلون في الحرج بالمخالفة ، ورأى أن الأوفق بالأمة في تلك الأمور سعة الاجتهاد ، وحكم النظر ، وطلب الصواب ، فيكون المصيب ، والمخطئ مأجورا .
وقد علم عمر تقرر الشرع ، وتأسيس الملة ، وأن الله - تعالى - قال : اليوم أكملت لكم دينكم [ المائدة : 3 ] . وقوله - صلى الله عليه وسلم - . أوصيكم بكتاب الله ، وعترتي
وقول عمر : حسبنا كتاب الله رد على من نازعه ، لا على أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - .
وقد قيل : إن عمر خشي تطرق المنافقين ، ومن في قلبه مرض لما كتب في ذلك الكتاب في الخلوة ، وأن يتقولوا في ذلك الأقاويل ، كادعاء الرافضة الوصية ، وغير ذلك .
وقيل : إنه كان من النبي - صلى الله عليه وسلم - لهم على طريق المشورة ، والاختيار . هل يتفقون على ذلك أم يختلفون ؟ فلما اختلفوا تركه .
وقالت طائفة أخرى : إن معنى الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان مجيبا في هذا الكتاب لما طلب منه ، لا أنه ابتدأ بالأمر به ، بل اقتضاه منه بعض أصحابه ، فأجاب رغبتهم ، وكره ذلك غيرهم للعلل التي ذكرناها .
واستدل في مثل هذه القصة بقول العباس لعلي : انطلق بنا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فإن كان الأمر فينا علمناه ، وكراهة علي هذا وقوله : والله لا أفعل . . . الحديث .
واستدل بقوله : ، أي الذي أنا فيه خير من إرسال الأمر ، وترككم ، وكتاب [ ص: 526 ] الله . وأن تدعوني مما طلبتم . دعوني ، فإن الذي أنا فيه خير
وذكر أن الذي طلب كتابة أمر الخلافة بعده ، وتعيين ذلك .