الفصل الثامن : أفعاله الدنيوية - صلى الله عليه وسلم -  
وأما  أفعاله - صلى الله عليه وسلم - الدنيوية   فحكمه فيها من توقي المعاصي والمكروهات ما قدمناه ، ومن جواز السهو والغلط في بعضها ما ذكرناه .  
وكله غير قادح في النبوة ، بل إن هذا فيها على الندور ، إذ عامة أفعاله على السداد والصواب ، بل أكثرها أو كلها جارية مجرى العبادات ، والقرب على ما بينا إذ كان - صلى الله عليه وسلم - لا يأخذ منها لنفسه إلا ضرورته ، وما يقيم رمق جسمه ، وفيه مصلحة ذاته التي بها يعبد ربه ، ويقيم شريعته ، ويسوس أمته ، وما كان فيما بينه ، وبين الناس من ذلك فبين معروف يصنعه ، أو بر يوسعه ، أو كلام حسن يقوله أو يسمعه ، أو تألف شارد ، أو قهر معاند ، أو مداراة حاسد ، وكل      [ ص: 529 ] هذا لاحق بصالح أعماله ، منتظم في زاكي وظائف عباداته ، وقد كان يخالف في أفعاله الدنيوية بحسب اختلاف الأحوال ، ويعد للأمور أشباهها ، فيركب في تصرفه لما قرب الحمار ، وفي أسفاره الراحلة ، ويركب البغلة في معارك الحرب دليلا على الثبات ، ويركب الخيل ، ويعدها ليوم الفزع ، وإجابة الصارخ .  
وكذلك في لباسه ، وسائر أحواله بحسب اعتبار مصالحه ، ومصالح أمته .  
وكذلك يفعل الفعل في أمور الدنيا مساعدة لأمته ، وسياسة وكراهية لخلافها ، وإن كان قد يرى غيره خيرا منه ، كما يترك الفعل لهذا ، وقد يرى فعله خيرا منه ، وقد يفعل هذا في الأمور الدينية مما له الخيرة في أحد وجهيه ، كخروجه من  المدينة   لأحد   ، وكان مذهبه التحصن بها ،  وتركه قتل المنافقين   ، وهو على يقين من أمرهم مؤالفة لغيرهم ، ورعاية للمؤمنين من قرابتهم ، وكراهة لأن يقول الناس : إن  محمدا   يقتل أصحابه ، كما جاء في الحديث ،  وتركه بناء  الكعبة   على قواعد  إبراهيم   مراعاة لقلوب  قريش    ، وتعظيمهم لتغييرها ، وحذرا من نفار قلوبهم لذلك ، وتحريك متقدم عداوتهم للدين وأهله ، فقال  لعائشة  في الحديث الصحيح :  لولا حدثان قومك بالكفر لأتممت البيت على قواعد  إبراهيم      .  
ويفعل الفعل ثم يتركه ، لكون غيره خيرا منه ، كانتقاله من أدنى مياه  بدر   إلى أقربها للعدو من  قريش   ، وكقوله :  لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي     .  
ويبسط وجهه للكافر والعدو ؛ رجاء استئلافه .  
ويصبر للجاهل   ، ويقول :  إن  من شر الناس من اتقاه الناس لشره      . ويبذل له الرغائب ليحبب إليه شريعته ، ودين ربه . ويتولى في منزله ما يتولى الخادم من مهنته ، ويتسمت في ملاءته ، حتى لا يبدو شيء من أطرافه ، وحتى كأن على رءوس جلسائه      [ ص: 530 ] الطير ، ويتحدث مع جلسائه بحديث أولهم ،  ويتعجب مما يتعجبون منه ، ويضحك مما يضحكون منه ، وقد وسع الناس بشره   ، وعدله ، لا يستفزه الغضب ، ولا يقصر عن الحق ، ولا يبطن على جلسائه ، يقول :  ما كان لنبي أن تكون له خائنة الأعين      .  
فإن قلت : فما معنى قوله  لعائشة     - رضي الله عنها - في الداخل عليه :  بئس ابن العشيرة     . فلما دخل ألان له القول ، وضحك معه ، فلما سألته عن ذلك قال :  إن من شر الناس من اتقاه الناس لشره     .  
وكيف جاز أن يظهر له خلاف ما يبطن ، ويقول في ظهره ما قال ؟  
فالجواب أن فعله - صلى الله عليه وسلم - كان استئلافا لمثله ، وتطييبا لنفسه ، ليتمكن إيمانه ويدخل في الإسلام بسببه أتباعه ، ويراه مثله فينجذب بذلك إلى الإسلام . ومثل هذا على هذا الوجه قد خرج من حد مداراة الدنيا إلى السياسة الدينية . وقد كان النبي يستألفهم بأموال الله العريضة فكيف بالكلمة اللينة ؟ .  
قال  صفوان     : لقد أعطاني ، وهو أبغض الخلق إلي ، فما زال يعطيني حتى صار أحب الخلق إلي     .  
وقوله فيه : بئس ابن العشيرة هو غير غيبة ، بل هو تعريف ما علمه منه لمن لم يعلم ليحذر حاله ، ويحترز منه ، ولا يوثق بجانبه كل الثقة ، ولا سيما ، وكان مطاعا متبوعا .  
ومثل هذا إذا كان لضرورة ، ودفع مضرة لم يكن بغيبة ، بل كان جائزا ، بل واجبا في بعض الأحيان كعادة المحدثين في تجريح الرواة ، والمزكين في الشهود .  
فإن قيل : فما معنى المعضل الوارد في حديث   بريرة  من قوله - صلى الله عليه وسلم -  لعائشة ،  وقد أخبرته أن موالي   بريرة  أبوا بيعها إلا أن يكون لهم الولاء ، فقال - صلى الله عليه وسلم - :  اشتريها ، واشترطي لهم الولاء     .  
ففعلت ، ثم قام خطيبا ، فقال :  ما بال أقوام يشترطون شروطا ليست في كتاب الله ،  كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل   ، والنبي - صلى الله عليه وسلم - قد أمرها بالشرط لهم ، وعليه باعوا ، ولولاه ، والله أعلم لما باعوها من  عائشة  ، كما لم      [ ص: 531 ] يبيعوها قبل حتى شرطوا ذلك عليها ، ثم أبطله - صلى الله عليه وسلم - ، وهو قد  حرم الغش ، والخديعة      .  
فاعلم أكرمك الله أن النبي - صلى الله عليه وسلم - منزه عما يقع في بال الجاهل من هذا ولتنزيه النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك ما قد أنكر قوم هذه الزيادة : قوله :  اشترطي لهم الولاء  ، إذ ليست في أكثر طرق الحديث ، ومع ثباتها فلا اعتراض بها ، إذ يقع لهم بمعنى عليهم ، قال الله - تعالى - :  أولئك لهم اللعنة      [ الرعد : 25 ] . وقال :  وإن أسأتم فلها      [ الإسراء : 7 ] .  
فعلى هذا اشترطي عليهم الولاء لك ، ويكون قيام النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ووعظه لما سلف من شرط الولاء لأنفسهم قبل ذلك .  
ووجه ثان : أن قوله - صلى الله عليه وسلم - :  اشترطي لهم الولاء  ليس على معنى الأمر ، لكن على معنى التسوية ، والإعلام بأن شرطه لهم لا ينفعهم بعد بيان النبي - صلى الله عليه وسلم - لهم قبل  أن الولاء لمن أعتق  ، فكأنه قال : اشترطي أو لا تشترطي ، فإنه شرط غير نافع .  
وإلى هذا ذهب  الداودي  ، وغيره ، وتوبيخ النبي - صلى الله عليه وسلم - لهم ، وتقريعهم على ذلك يدل على علمهم به قبل هذا .  
الوجه الثالث : أن معنى قوله :  اشترطي لهم الولاء  ، أي أظهري لهم حكمه ، وبيني سنته بأن الولاء إنما هو لمن أعتق . ثم بعد هذا قام هو - صلى الله عليه وسلم - مبينا ذلك ، وموبخا على مخالفة ما تقدم منه فيه .  
فإن قيل : فما معنى فعل  يوسف      - عليه السلام - بأخيه ، إذ جعل السقاية في رحله ، وأخذه باسم سرقتها ، وما جرى على إخوته في ذلك ، وقوله - تعالى - :  إنكم لسارقون      [ يوسف : 70 ] ، ولم يسرقوا .  
فاعلم أكرمك الله أن الآية تدل على أن فعل  يوسف   كان عن أمر الله ، لقوله - تعالى - :  كذلك كدنا ليوسف ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك إلا أن يشاء الله      [ يوسف : 76 ] الآية .  
فإذا كان كذلك فلا اعتراض به ، كان فيه ما فيه .  
وأيضا فإن  يوسف   كان أعلم أخاه بأني أنا أخوك فلا تبتئس ، فكان ما جرى عليه بعد هذا من وفقه ، ورغبته ، وعلى يقين من عقبى الخير له به ، وإزاحة السوء ، والمضرة عنه بذلك . وأما قوله :  أيتها العير إنكم لسارقون      [ يوسف : 70 ] ، فليس من قول  يوسف      . فيلزم عليه جواب يحل شبهه . ولعل قائله إن حسن له التأويل كائنا من كان ظن على صورة الحال ذلك ، وقد قيل : قال ذلك لفعلهم قبل  بيوسف   ، وبيعهم له ، وقيل غير هذا ، ولا يلزم أن نقول الأنبياء ما لم يأت أنهم قالوه ، حتى يطلب الخلاص منه ، ولا يلزم الاعتذار عن زلات غيرهم .  
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					