[ ص: 539 ]  [ ص: 540 ]  [ ص: 541 ] الباب الأول :  
في بيان ما هو في حقه - صلى الله عليه وسلم - سب أو نقص من تعريض أو نص  
الفصل الأول :  الحكم الشرعي فيمن سب النبي - صلى الله عليه وسلم - أو تنقصه   
اعلم وفقنا الله وإياك أن جميع من سب النبي - صلى الله عليه وسلم - ، أو عابه ، أو ألحق به نقصا في نفسه أو نسبه أو دينه ، أو خصلة من خصاله ، أو عرض به ، أو شبهه بشيء على طريق السب له ، أو الإزراء عليه ، أو التصغير لشأنه أو الغض منه ، والعيب له ، فهو ساب له ، والحكم فيه حكم الساب ، يقتل كما نبينه ، ولا نستثني فصلا من فصول هذا الباب على هذا المقصد ، ولا نمتري فيه تصريحا كان أو تلويحا . وكذلك من لعنه أو دعا عليه ، أو تمنى مضرة له ، أو نسب إليه ما لا يليق بمنصبه على طريق الذم ، أو عبث في جهته العزيزة بسخف من الكلام ، وهجر ومنكر من القول وزور ، أو عيره بشيء مما جرى من البلاء ، والمحنة عليه ، أو غمصه ببعض العوارض البشرية الجائزة ، والمعهودة لديه .  
وهذا كله إجماع من العلماء ، وأئمة الفتوى من لدن الصحابة رضوان الله عليهم إلى هلم جرا .  
وقال   أبو بكر بن المنذر     : أجمع عوام أهل العلم على أن من سب النبي - صلى الله عليه وسلم - يقتل ، وممن قال ذلك   مالك بن أنس  ،  والليث  ،  وأحمد ،  وإسحاق  ، وهو مذهب   الشافعي .  
قال  القاضي أبو الفضل     : وهو مقتضى قول   أبي بكر الصديق     - رضي الله عنه - ، ولا تقبل توبته عند هؤلاء المذكورين .  
وبمثله قال  أبو حنيفة  ، وأصحابه ،   والثوري  ،  وأهل الكوفة   ،   والأوزاعي  في المسلمين ، لكنهم قالوا : هي ردة .  
روى مثله   الوليد بن مسلم  عن مالك .  
وحكى   الطبري  مثله عن  أبي حنيفة  ، وأصحابه فيمن تنقصه - صلى الله عليه وسلم - ، أو برئ منه أو كذبه .  
وقال   سحنون  فيمن سبه : ذلك ردة كالزندقة .  
وعلى هذا وقع الخلاف في استتابته ، وتكفيره ، وهل قتله حد أو كفر ، كما سنبينه في الباب الثاني إن شاء الله - تعالى - ، ولا نعلم خلافا في استباحة دمه بين علماء الأمصار ، وسلف الأمة ، وقد ذكر غير واحد الإجماع على قتله ، وتكفيره ، وأشار بعض  الظاهرية   ، وهو  أبو محمد علي بن أحمد الفارسي  إلى الخلاف في تكفير المستخف به .  
والمعروف ما قدمناه ، قال  محمد بن   [ ص: 542 ] سحنون     : أجمع العلماء أن شاتم النبي - صلى الله عليه وسلم - المتنقص له كافر . والوعيد جار عليه بعذاب الله ، وحكمه عند الأمة القتل ، ومن شك في كفره ، وعذابه كفر .  
واحتج  إبراهيم بن حسين بن خالد  الفقيه في مثل هذا بقتل   خالد بن الوليد  مالك بن نويرة  لقوله عن النبي - صلى الله عليه وسلم - صاحبكم .  
وقال  أبو  سليمان الخطابي : لا أعلم أحدا من المسلمين اختلف في وجوب قتله إذا كان مسلما .  
وقال  ابن القاسم  عن  مالك  في كتاب   ابن سحنون  ، والمبسوط ، والعتبية ، وحكاه  مطرف  عن  مالك  في كتاب  ابن حبيب     : من سب النبي - صلى الله عليه وسلم - من المسلمين قتل ، ولم يستتب .  
قال  ابن القاسم  في العتبية : من سبه أو شتمه أو عابه أو تنقصه فإنه يقتل ، وحكمه عند الأمة القتل كالزنديق .  
وقد فرض الله - تعالى - توقيره ، وبره . وفي المبسوط عن  عثمان بن كنانة     : من شتم النبي - صلى الله عليه وسلم - من المسلمين قتل أو صلب حيا ، ولم يستتب ، والإمام مخير في صلبه حيا أو قتله .  
ومن رواية  أبي المصعب  ،   وابن أبي أويس     : سمعنا  مالكا  يقول : من سب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، أو شتمه ، أو عابه ، أو تنقصه قتل مسلما كان أو كافرا ، ولا يستتاب .  
وفي كتاب  محمد     : أخبرنا أصحاب  مالك  أنه قال : من سب النبي - صلى الله عليه وسلم - أو غيره من النبيين من مسلم أو كافر قتل ، ولم يستتب .
وقال  أصبغ     : يقتل على كل حال أسر ذلك أو أظهره ، ولا يستتاب ، لأن توبته لا تعرف .  
وقال  عبد الله بن الحكم     : من سب النبي - صلى الله عليه وسلم - من مسلم أو كافر قتل ، ولم يستتب .  
وحكى   الطبري  مثله عن  أشهب  ، عن  مالك     .  
وروى  ابن وهب ،  عن  مالك     : من قال : إن رداء النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ويروى زر النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وسخ ، أراد عيبه قتل .  
وقال بعض علمائنا : أجمع العلماء على أن من دعا على نبي من الأنبياء بالويل ، أو بشيء من المكروه أنه يقتل بلا استتابة .  
وأفتى أبو   [ ص: 543 ]  الحسن القابسي  فيمن قال في النبي - صلى الله عليه وسلم - : الحمال يتيم  أبي طالب  بالقتل .  
وأفتى أبو  محمد بن أبي زيد  بقتل رجل سمع قوما يتذاكرون صفة النبي - صلى الله عليه وسلم - إذ مر بهم رجل قبيح الوجه واللحية ، فقال لهم : تريدون تعرفون صفته ، هي في صفة هذا المار في خلقه ولحيته . قال : ولا تقبل توبته .  
وقد كذب لعنه الله ، وليس يخرج من قلب سليم الإيمان .  
وقال  أحمد بن أبي سليمان  صاحب   سحنون     : من قال : إن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان أسود يقتل .  
وقال في رجل قيل له : لا وحق رسول الله . فقال فعل الله برسول الله كذا وكذا ، وذكر كلاما قبيحا ، فقيل له : ما تقول يا عدو الله ؟ فقال أشد من كلامه الأول ، ثم قال : إنما أردت برسول الله العقرب . فقال  ابن أبي سليمان  للذي سأله : اشهد عليه ، وأنا شريكك يريد في قتله ، وثواب ذلك .  
قال  حبيب بن الربيع     : لأن  ادعاء التأويل في لفظ صراح لا يقبل   ، لأنه امتهان وهو غير معزر لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ولا موقر له ، فوجب إباحة دمه .  
وأفتى  أبو عبد الله بن عتاب  في عشار ، قال لرجل : أد ، واشك إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وقال : إن سألت أو جهلت فقد جهل ، وسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - بالقتل . وأفتى فقهاء  الأندلس   بقتل  ابن حاتم  المتفقه الطليطلي ، وصلبه بما شهد عليه به من استخفافه بحق النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وتسميته إياه أثناء مناظرته باليتيم ، وختن  حيدرة  ، وزعمه أن زهده لم يكن قصدا ، ولو قدر على الطيبات أكلها ، إلى أشباه لهذا .  
وأفتى فقهاء  القيروان   وأصحاب   سحنون  بقتل   إبراهيم الفزاري  ، وكان شاعرا متفننا في كثير من العلوم ، وكان ممن يحضر مجلس  القاضي أبي العباس بن طالب  للمناظرة ، فرفعت عليه أمور منكرة من هذا الباب في الاستهزاء بالله ، وأنبيائه ، ونبينا - صلى الله عليه وسلم - ، فأحضر له القاضي  يحيى بن عمر  ، وغيره من الفقهاء ، وأمر بقتله ، وصلبه ، فطعن بالسكين ، وصلب منكسا ، ثم أنزل ، وأحرق بالنار .  
 [ ص: 544 ] وحكى بعض المؤرخين أنه لما رفعت خشبته ، وزالت عنها الأيدي استدارت ، وحولته عن القبلة ، فكان آية للجميع ، وكبر الناس ، وجاء كلب فولغ في دمه ، فقال  يحيى بن عمر     : صدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وذكر حديثا عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال :  لا يلغ الكلب في دم مسلم     .  
وقال   القاضي أبو عبد الله بن المرابط     :  من قال : إن النبي - صلى الله عليه وسلم - هزم يستتاب ، فإن تاب ، وإلا قتل   ، لأنه تنقص ، إذ لا يجوز ذلك عليه في خاصته ، إذ هو على بصيرة من أمره ، ويقين من عصمته .  
وقال  حبيب بن ربيع القروي     : مذهب  مالك  ، وأصحابه أن من قال فيه - صلى الله عليه وسلم - : ما فيه نقص قتل دون استتابة .  
وقال  ابن عتاب     : الكتاب والسنة موجبان أن من قصد النبي - صلى الله عليه وسلم - بأذى أو نقص ، معرضا أو مصرحا ، وإن قل فقتله واجب ، فهذا الباب كله مما عده العلماء سبا أو تنقصا يجب قتل قائله ، لم يختلف في ذلك متقدمهم ولا متأخرهم ، وإن اختلفوا في حكم قتله على ما أشرنا إليه ، ونبينه بعد .  
وكذلك أقول حكم من غمصه أو عيره برعاية الغنم أو السهو أو النسيان أو السحر ، أو ما أصابه من جرح أو هزيمة لبعض جيوشه ، أو أذى من عدوه ، أو شدة من زمنه ، أو بالميل إلى نسائه ، فحكم هذا كله لمن قصد به نقصه القتل .  
وقد مضى من مذاهب العلماء في ذلك ، ويأتي ما يدل عليه .  
				
						
						
