الفصل الرابع : رجاحة عقله ، وفصاحة لسانه
وأما ، وقوة حواسه ، وفصاحة لسانه واعتدال حركاته ، وحسن شمائله فلا مرية أنه كان أعقل الناس ، وأذكاهم ، ومن تأمل تدبيره أمر بواطن الخلق ، وظواهرهم ، وسياسة العامة ، والخاصة ، مع عجيب شمائله ، وبديع سيره ، فضلا عما أفاضه من العلم ، وقرره من الشرع دون تعلم سبق ، ولا ممارسة تقدمت ، ولا مطالعة للكتب منه ، لم يمتر في رجحان عقله ، وثقوب فهمه لأول بديهة ، وهذا ما لا يحتاج إلى تقريره لتحققه ، وقد قال وفور عقله ، وذكاء لبه : قرأت في أحد وسبعين كتابا ، فوجدت في جميعها أن وهب بن منبه ، وأفضلهم رأيا النبي - صلى الله عليه وسلم - أرجح الناس عقلا ، وفي رواية أخرى : فوجدت في جميعها أن الله - تعالى - لم يعط جميع الناس من بدء الدنيا إلى انقضائها من العقل في جنب عقله - صلى الله عليه وسلم - إلا كحبة رمل من بين رمال الدنيا .
وقال مجاهد : [ كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قام في الصلاة يرى من خلفه كما يرى من بين يديه ] ، وبه فسر قوله - تعالى - : وتقلبك في الساجدين [ الشعراء : 218 ] ، وفي الموطأ عنه - عليه السلام - : ونحوه عن إني لأراكم من وراء ظهري أنس في الصحيحين ، وعن عائشة رضي الله عنها مثله ، قالت : زيادة زاده الله إياها في حجته ، وفي بعض الروايات : وفي أخرى : إني لأنظر من ورائي كما أنظر من بين يدي وحكى إني [ ص: 157 ] لأبصر من قفاي كما أبصر من بين يدي ، عن بقي بن مخلد عائشة رضي الله عنها : كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يرى في الظلمة كما يرى في الضوء .
والأخبار كثيرة صحيحة في ، ورفع رؤيته - صلى الله عليه وسلم - للملائكة ، والشياطين له حتى صلى عليه ، النجاشي وبيت المقدس حين وصفه لقريش ، والكعبة حين بنى مسجده .
وقد حكي عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يرى في الثريا أحد عشر نجما ، وهذه كلها محمولة على رؤية العين ، وهو قول ، وغيره ، وذهب بعضهم إلى ردها إلى العلم ، والظواهر تخالفه ، ولا إحالة في ذلك ، وهي من خواص الأنبياء ، وخصالهم ، كما أخبرنا أحمد بن حنبل أبو محمد عبد الله بن أحمد العدل من كتابه .
حدثنا أبو الحسن المقرئ الفرغاني ، حدثتنا أم القاسم بنت أبي بكر عن أبيها ، حدثنا الشريف أبو الحسن علي بن محمد الحسني ، حدثنا محمد بن محمد بن سعيد ، حدثنا محمد بن أحمد بن سليمان حدثنا محمد بن محمد بن مرزوق ، حدثنا همام ، حدثنا الحسن ، عن قتادة ، عن ، عن يحيى بن وثاب ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : أبي هريرة لما تجلى الله لموسى - عليه السلام - كان يبصر النملة على الصفا في الليلة الظلماء مسيرة عشرة فراسخ ، ولا يبعد على هذا أن يختص نبينا بما ذكرناه من هذا الباب بعد الإسراء ، والحظوة بما رأى من آيات ربه الكبرى .
[ ص: 158 ] وقد جاءت الأخبار بأنه صرع ركانة أشد أهل وقته ، وكان دعاه إلى الإسلام ، وصارع أبا ركانة في الجاهلية ، وكان شديدا ، وعاوده ثلاث مرات ، كل ذلك يصرعه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وقال رضي الله عنه : أبو هريرة ، كأنما الأرض تطوى له ، إنا لنجهد أنفسنا ، وهو غير مكترث ما رأيت أحدا أسرع من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مشيه ، وفي صفته عليه السلام أن ، إذا التفت التفت معا ، وإذا مشى مشى تقلعا كأنما ينحط من صبب ضحكه كان تبسما .