الفصل الثامن :
والضرب الثاني ما يتفق المدح بكثرته ، والفخر بوفوره ، كالنكاح ، والجاه . زواجه ، وما يتعلق به - صلى الله عليه وسلم -
أما النكاح فمتفق فيه شرعا ، وعادة ، فإنه دليل الكمال ، وصحة الذكورية ، ولم يزل التفاخر بكثرته عادة معروفة ، والتمادح به سيرة ماضية ، وأما في الشرع فسنة مأثورة ، وقد قال : أفضل هذه الأمة أكثرها نساء يشير إليه - صلى الله عليه وسلم - ، وقد قال - صلى الله عليه وسلم - : ابن عباس تناكحوا تناسلوا فإني مباه بكم الأمم يوم القيامة . مع ما فيه من قمع الشهوة ، وغض البصر اللذين نبه عليهما - صلى الله عليه وسلم - بقوله : ونهى عن التبتل حتى لم يره العلماء مما يقدح في الزهد . من كان ذا طول فليتزوج ، فإنه أغض للبصر ، وأحصن للفرج
قال : قد حببن إلى سيد المرسلين ، فكيف يزهد فيهن ؟ ونحوه سهل بن عبد الله ، وقد كان زهاد الصحابة - رضي الله عنهم - كثيري الزوجات ، والسراري ، كثيري النكاح ، وحكي في ذلك عن لابن عيينة علي ، والحسن ، ، وغيرهم غير شيء ، وقد كره غير واحد أن يلقى الله عزبا . وابن عمر
[ ص: 169 ] فإن قيل : كيف يكون النكاح ، وكثرته من الفضائل ، وهذا يحيى بن زكريا - عليه السلام - قد أثنى الله - تعالى - عليه أنه كان حصورا ، فكيف يثني الله عليه بالعجز عما تعده فضيلة ؟ . وهذا عيسى ابن مريم - عليه السلام - تبتل من النساء ، ولو كان كما قررته لنكح ؟ فاعلم أن ثناء الله - تعالى - على يحيى بأنه حصور ليس كما قال بعضهم : إنه كان هيوبا ، أو لا ذكر له ، بل قد أنكر هذا حذاق المفسرين ، ونقاد العلماء ، وقالوا : هذه نقيصة ، وعيب ، ولا تليق بالأنبياء ، وإنما معناه أنه معصوم من الذنوب ، أي لا يأتيها ، كأنه حصر عنها ، وقيل : مانعا نفسه من الشهوات ، وقيل : ليست له شهرة في النساء . فقد بان ذلك من هذا أن عدم القدرة على النكاح نقص ، وإنما الفضل في كونها موجودة ، ثم قمعها ، إما بمجاهدة ، كعيسى - عليه السلام - ، أو بكفاية من الله - تعالى - ، كيحيى - عليه السلام - فضلة زائدة لكونها شاغلة في كثير من الأوقات حاطة إلى الدنيا . ثم هي في حق من أقدر عليها ، وملكها ، وقام بالواجب فيها ، ولم تشغله عن ربه درجة علياء ، وهي درجة نبينا - صلى الله عليه وسلم - الذي لم تشغله كثرتهن عن عبادة ربه ، بل زاده ذلك عبادة لتحصينهن ، وقيامه بحقوقهن ، واكتسابه لهن ، وهدايته إياهن ، بل صرح أنها ليست من حظوظ دنياه هو ، وإن كانت من حظوظ دنيا غيره ، فقال : فدل على أن حبه لما ذكر من النساء ، والطيب اللذين هما من أمور دنيا غيره ، واستعماله لذلك ليس لدنياه ، بل لآخرته ، للفوائد التي ذكرناها في التزويج ، وللقاء الملائكة في الطيب ، ولأنه أيضا مما يحض على الجماع ، ويعين عليه ، ويحرك أسبابه ، وكان حبه لهاتين الخصلتين لأجل غيره ، وقمع شهوته ، وكان حبه الحقيقي المختص بذاته في مشاهدته جبروت مولاه ، ومناجاته ، ولذلك ميز بين الحبين ، وفصل بين الحالين ، فقال : حبب إلي من دنياكم . فقد ساوى وجعلت قرة عيني في الصلاة يحيى ، وعيسى في كفاية فتنتهن ، وزاد فضيلة بالقيام بهن ، وكان - صلى الله عليه وسلم - ممن أقدر على القوة في هذا وأعطي الكثير منه ، ولهذا أبيح له من عدد الحرائر ما لم يبح لغيره .
وقد روينا عن أنس . أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يدور على نسائه في الساعة من الليل ، والنهار ، وهن إحدى عشرة
[ ص: 170 ] قال أنس : وكنا نتحدث . خرجه أنه أعطي قوة ثلاثين رجلا ، وروي نحوه عن النسائي أبي رافع ، وعن : طاوس ، ومثله عن أعطي - عليه السلام - قوة أربعين رجلا في الجماع ، وقالت صفوان بن سليم سلمى مولاته : . طاف النبي - صلى الله عليه وسلم - ليلة على نسائه التسع ، وتطهر من كل واحدة قبل أن يأتي الأخرى ، وقال : هذا أطيب ، وأطهر
وقد قال سليمان - عليه السلام - : [ لأطوفن الليلة على مائة امرأة أو تسع ، وتسعين ] ، وأنه فعل ذلك . قال : كان في ظهر ابن عباس سليمان ماء مائة رجل أو تسع وتسعين ، وكانت له ثلاثمائة امرأة ، وثلاثمائة سرية . وحكى النقاش ، وغيره سبعمائة امرأة ، وثلاثمائة سرية ، وقد كان لداود - عليه السلام - على زهده ، وأكله من عمل يده تسع ، وتسعون امرأة ، وتمت بزوج أورياء مائة ، وقد نبه على ذلك في الكتاب العزيز بقوله - تعالى - : إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة [ ص : 23 ] .
وفي حديث أنس عنه - عليه السلام - : ، وقوة البطش . فضلت على الناس بأربع : بالسخاء ، والشجاعة ، وكثرة الجماع وأما الجاه فمحمود عند العقلاء عادة .
[ ص: 171 ] وبقدر جاهه عظمه في القلوب ، وقد قال الله - تعالى - في صفة عيسى - عليه السلام - : وجيها في الدنيا والآخرة [ آل عمران : 45 ] ، لكن آفاته كثيرة ، فهو مضر لبعض الناس لعقبى الآخرة ، فلذلك ذمه من ذمه ، ومدح ضده . وورد في الشرع مدح الخمول ، وذم العلو في الأرض ، وكان - صلى الله عليه وسلم - قد رزق من الحشمة ، والمكانة في القلوب ، والعظمة قبل النبوة عند الجاهلية ، وبعدها ، وهم يكذبونه ، ويؤذون أصحابه ، ويقصدون أذاه في نفسه خفية حتى إذا واجههم أعظموا أمره ، وقضوا حاجته ، وأخباره في ذلك معروفة سيأتي بعضها ، وقد كان يبهت ويفرق لرؤيته من لم يره ، كما روي عن قيلة أنها لما رأته أرعدت من الفرق ، فقال : يا مسكينة ، عليك السكينة وفي حديث أبي مسعود . . الحديث . أن رجلا قام بين يديه فأرعد ، فقال : هون عليك فإني لست بملك
فأما عظم قدره بالنبوة ، وشريف منزلته بالرسالة ، وإنافة رتبته بالاصطفاء ، والكرامة في الدنيا فأمر هو مبلغ النهاية ، ثم هو في الآخرة سيد ولد آدم ، وعلى معنى هذا الفصل نظمنا هذا القسم بأسره .