[ ص: 173 ] الفصل العاشر : الأخلاق الحميدة
وأما الخصال المكتسبة من الأخلاق الحميدة ، والآداب الشريفة التي اتفق جميع العقلاء على تفضيل صاحبها ، وتعظيم المتصف بالخلق الواحد منها ، فضلا عما فوقه ، وأثنى الشرع على جميعها ، وأمر بها ، ووعد السعادة الدائمة للمتخلق بها ، ووصف بعضها بأنه من أجزاء النبوة ، وهي المسماة بحسن الخلق ، وهو الاعتدال في قوى النفس ، وأوصافها ، والتوسط فيها دون الميل إلى منحرف أطرافها ، فجميعها قد كانت على الانتهاء في كمالها ، والاعتدال إلى غايتها ، حتى أثنى الله بذلك عليه ، فقال - تعالى - : خلق نبينا - صلى الله عليه وسلم - وإنك لعلى خلق عظيم [ القلم : 5 ] . قالت عائشة - رضي الله عنها - : كان خلقه القرآن يرضى برضاه ، ويسخط بسخطه . وقال - صلى الله عليه وسلم - : . بعثت لأتمم مكارم الأخلاق
قال أنس : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحسن الناس خلقا . وعن - رضي الله عنه - مثله . وكان فيما ذكره المحققون مجبولا عليها في أصل خلقته وأول فطرته ، لم تحصل له باكتساب ، ولا رياضة إلا بجود إلهي ، وخصوصية ربانية . وهكذا لسائر الأنبياء ، ومن طالع سيرهم منذ صباهم إلى مبعثهم حقق ذلك ، كما عرف من حال علي بن أبي طالب عيسى ، وموسى ، ويحيى ، وسليمان وغيرهم - عليهم السلام - . بل ، والحكمة في الفطرة ، قال الله - تعالى - : غرزت فيهم هذه الأخلاق في الجبلة ، وأودعوا العلم وآتيناه الحكم صبيا [ مريم : 12 ] .
[ ص: 174 ] قال المفسرون : يحيى العلم بكتاب الله - تعالى - في حال صباه . وقال أعطى الله معمر : كان يحيى ابن سنتين أو ثلاث ، فقال له الصبيان : لم لا تلعب ؟ فقال : أللعب خلقت ؟ ! . صدق يحيى بعيسى ، وهو ابن ثلاث سنين ، فشهد له أنه كلمة الله ، وروحه ، وقيل : صدقه ، وهو في بطن أمه ، فكانت أم يحيى تقول لمريم : إني أجد ما في بطني يسجد لما في بطنك ، تحية له . وقد نص الله - تعالى - على كلام عيسى لأمه عند ولادتها إياه بقوله لها : ألا تحزني [ مريم : 24 ] على قراءة من قرأ من تحتها ، وعلى قول من قال : إن المنادي عيسى . ونص على كلامه في مهده فقال : إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا [ مريم : 30 ] وقال : ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلما [ الأنبياء : 68 ] . وقد ذكر من حكم سليمان وهو صبي يلعب في قضية المرجومة ، وفي قصة الصبي ما اقتدى به داود أبوه . وقال أن عمره كان حين أوتي الملك اثنا عشر عاما . وكذلك قصة الطبري موسى مع فرعون ، وأخذه بلحيته ، وهو طفل .
وقال المفسرون في قوله - تعالى - : ولقد آتينا إبراهيم رشده من قبل [ الأنبياء : 68 ] ، أي هديناه صغيرا ، قاله مجاهد ، وغيره . وقال ابن عطاء : اصطفاه قبل إبداء خلقه . وقال بعضهم : لما ولد إبراهيم - عليه السلام - بعث الله - تعالى - إليه ملكا يأمره عن الله أن يعرفه بقلبه ، ويذكره بلسانه فقال : قد فعلت ، ولم يقل أفعل ، فذلك رشده ، وقيل : إن إلقاء إبراهيم - عليه السلام - في النار ، ومحنته كانت وهو ابن ست عشرة سنة ، وإن ابتلاء إسحاق بالذبح كان وهو ابن سبع سنين ، وإن استدلال إبراهيم بالكوكب ، والقمر ، والشمس كان وهو ابن خمسة عشر شهرا ، وقيل : أوحي إلى يوسف وهو صبي عندما هم إخوته بإلقائه في الجب ، يقول الله - تعالى - : وأوحينا إليه لتنبئنهم بأمرهم هذا وهم لا يشعرون [ يوسف : 15 ] الآية . إلى غير ذلك مما ذكرنا من أخبارهم .
وقد حكى أهل السير أن آمنة بنت وهب أخبرت أن محمدا - صلى الله عليه وسلم - ولد حين ولد باسطا يديه إلى الأرض ، رافعا رأسه إلى السماء . نبينا
وقال في حديثه - صلى الله عليه وسلم - : لما نشأت بغضت إلي الأوثان . وبغض إلي الشعر . ولم أهم بشيء مما كانت الجاهلية تفعله إلا مرتين ، فعصمني الله منهما ، ثم لم أعد . ثم يتمكن الأمر لهم ، [ ص: 175 ] وتترادف نفحات الله عليهم ، وتشرق أنوار المعارف في قلوبهم ، حتى يصلوا الغاية ، ويبلغوا باصطفاء الله - تعالى - لهم بالنبوة في تحصيل هذه الخصال الشريفة النهاية دون ممارسة ، ولا رياضة ، قال الله - تعالى - : ولما بلغ أشده آتيناه حكما وعلما [ يوسف : 22 ، القصص : 14 ] . وقد نجد غيرهم يطبع على بعض هذه الأخلاق دون جميعها ، ويولد عليها ، فيسهل عليه اكتساب تمامها عناية من الله - تعالى - ، كما نشاهد من خلقه بعض الصبيان على حسن السمت ، أو الشهامة ، أو صدق اللسان أو السماحة ، وكما نجد بعضهم على ضدها ، فبالاكتساب يكمل ناقصها ، وبالرياضة ، والمجاهدة يستجلب معدومها ، ويعتدل منحرفها ، وباختلاف هذين الحالين يتفاوت الناس فيها . وكل ميسر لما خلق له ; ولهذا ما قد اختلف السلف فيها : هل هذا الخلق جبلة أو مكتسبة ؟ . وحكى عن بعض السلف أن الخلق الحسن جبلة ، وغريزة في العبد ، وحكاه عن الطبري ، عبد الله بن مسعود والحسن ، وبه قال هو . والصواب ما أصلناه .
وقد روى سعد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، قال : وقال كل الخلال يطبع عليها المؤمن إلا الخيانة ، والكذب . - رضي الله عنه - في حديثه : والجرأة ، والجبن غرائز يضعهما الله حيث يشاء . عمر بن الخطاب
وهذه الأخلاق المحمودة ، والخصال الجميلة كثيرة ، ولكننا نذكر أصولها ، ونشير إلى جميعها ، ونحقق وصفه - صلى الله عليه وسلم - بها إن شاء الله - تعالى - .