الفصل الثاني : كرامة الإسراء
في تفضيله بما تضمنته كرامة الإسراء من المناجاة . والرؤية وإمامة الأنبياء والعروج به إلى سدرة المنتهى وما رأى من آيات ربه الكبرى : ومن خصائصه - صلى الله عليه وسلم - مما نبه عليه الكتاب العزيز ، وشرحته صحاح الأخبار ، قال الله - تعالى - قصة الإسراء ، وما انطوت عليه من درجات الرفعة سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام [ الإسراء : 1 ] الآية .
وقال - تعالى - : والنجم إذا هوى [ النجم : 1 ] - إلى قوله - : لقد رأى من آيات ربه الكبرى [ النجم : 18 ] .
فلا خلاف بين المسلمين في صحة الإسراء به - صلى الله عليه وسلم - ، إذ هو نص القرآن وجاءت بتفصيله ، وشرح عجائبه ، وخواص نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - فيه أحاديث كثيرة منتشرة رأينا أن نقدم أكملها ، ونشير إلى زيادة من غيره يجب ذكرها .
[ حدثنا القاضي الشهيد أبو علي ، والفقيه أبو بحر بسماعي عليهما ، والقاضي أبو عبد الله التميمي ، وغير واحد من شيوخنا ، قالوا : حدثنا أبو العباس العذري ، حدثنا أبو العباس الرازي ، حدثنا ، حدثنا أبو أحمد الجلودي ابن سفيان حدثنا حدثنا مسلم بن الحجاج ، حدثنا [ ص: 224 ] شيبان بن فروخ ، حدثنا حماد بن سلمة ] ، عن ثابت البناني - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : أنس بن مالك بيت المقدس ، فربطته بالحلقة التي يربط بها الأنبياء ، ثم دخلت المسجد فصليت فيه ركعتين ، ثم خرجت ، فجاءني جبريل بإناء من خمر ، وإناء من لبن فاخترت اللبن فقال جبريل : اخترت الفطرة .
ثم عرج بنا إلى السماء ، فاستفتح جبريل ، فقيل : من أنت ؟ قال جبريل . قيل : ومن معك ؟ قال : محمد . قيل : وقد بعث إليه ؟ قال : قد بعث إليه ، ففتح لنا ، فإذا أنا بآدم - صلى الله عليه وسلم - ، فرحب بي ، ودعا لي بخير .
ثم عرج بنا إلى السماء الثانية ، فاستفتح جبريل ، فقيل : من أنت ؟ قال : جبريل . قيل : ومن معك ؟ قال : محمد . قيل : وقد بعث إليه ؟ قال : قد بعث إليه . ففتح لنا ، فإذا أنا بابني الخالة : عيسى ابن مريم ، ويحيى بن زكريا صلى الله عليهما ، فرحبا بي ، ودعوا لي بخير .
ثم عرج بنا إلى السماء الثالثة ، فذكر مثل الأول ، ففتح لنا ، فإذا أنا بيوسف - صلى الله عليه وسلم - ، وإذا هو قد أعطي شطر الحسن ، فرحب بي ، ودعا لي بخير .
ثم عرج بنا إلى السماء الرابعة ، وذكر مثله ، فإذا أنا بإدريس ، فرحب بي ، ودعا لي بخير ، قال الله - تعالى - : ورفعناه مكانا عليا [ مريم : 57 ]
ثم عرج بنا إلى السماء الخامسة فذكر مثله ، فإذا أنا بهارون ، فرحب بي ، ودعا لي بخير .
ثم عرج بنا إلى السماء السادسة ، فذكر مثله ، فإذا أنا بموسى ، فرحب بي ، ودعا لي بخير .
ثم عرج بنا إلى السماء السابعة ، فذكر مثله ، فإذا أنا بإبراهيم مسندا ظهره إلى البيت المعمور ، وإذا هو يدخله كل يوم سبعون ألف ملك ، لا يعودون إليه . ثم ذهب بي إلى سدرة المنتهى ، وإذا ورقها كآذان الفيلة ، وإذا ثمرها كالقلال ، قال : فلما غشيها من أمر الله ما غشي تغيرت ، فما أحد من خلق الله يستطيع أن ينعتها من حسنها ، فأوحى الله إلي ما أوحى ، ففرض علي خمسين صلاة في كل يوم ، وليلة ، فنزلت إلى موسى ، فقال : ما فرض ربك على أمتك ؟ قلت خمسين صلاة . قال : ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف ، فإن أمتك لا يطيقون ذلك ، فإني قد بلوت بني إسرائيل ، وخبرتهم . قال : فرجعت إلى ربي ، فقلت : يا رب ، خفف عن أمتي . فحط عني خمسا ، فرجعت إلى موسى ، فقلت : حط عني خمسا ، قال : إن أمتك لا يطيقون ذلك ، فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف . قال : فلم أزل أرجع بين ربي تعالى ، وبين موسى حتى قال : يا محمد ، إنهم خمس صلوات كل يوم ، وليلة لكل صلاة عشر ، فتلك خمسون صلاة ، ومن هم بحسنة فلم يعملها [ ص: 225 ] كتبت له حسنة ، فإن عملها كتبت له عشرا ، ومن هم بسيئة فلم يعملها لم تكتب شيئا فإن عملها كتبت سيئة واحدة .
قال : فنزلت حتى انتهيت إلى موسى ، فأخبرته ، فقال : ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف .
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : فقلت : قد رجعت إلى ربي حتى استحييت منه . أتيت بالبراق ، وهو دابة أبيض طويل ، فوق الحمار ، ودون البغل ، يضع حافره عند منتهى طرفه قال : فركبته حتى أتيت
قال القاضي - وفقه الله - : جود ثابت - رحمه الله - هذا الحديث عن أنس ما شاء ، ولم يأت أحد عنه بأصوب من هذا .
وقد خلط فيه غيره عن أنس تخليطا كثيرا ، لا سيما من رواية ، فقد ذكر في أوله مجيء الملك له ، وشق بطنه ، وغسله بماء زمزم ، وهذا إنما كان وهو صبي ، وقبل الوحي . شريك بن أبي نمر
وقد قال شريك في حديثه : وذلك قبل أن يوحى إليه ، وذكر قصة الإسراء . ولا خلاف أنها كانت بعد الوحي .
وقد قال غير واحد : إنها كانت قبل الهجرة بسنة ، وقيل : قبل هذا .
وقد روى ثابت عن أنس ، من رواية أيضا مجيء حماد بن سلمة جبريل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يلعب مع الغلمان عند ظئره ، وشقه قلبه تلك القصة مفردة من حديث الإسراء كما رواه الناس ، فجود في القصتين ، وفي أن الإسراء إلى بيت المقدس ، وإلى سدرة المنتهى كان قصة ، واحدة ، وأنه وصل إلى بيت المقدس ، ثم عرج به من هناك ، فأزاح كل إشكال أوهمه غيره .
وقد روى يونس ، عن ، عن ابن شهاب أنس ، قال : كان أبو ذر يحدث أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، قال : بمكة ، [ ص: 226 ] جبريل ، ففرج صدري ، ثم غسله من ماء زمزم ، ثم جاء بطست من ذهب ممتلئ حكمة ، وإيمانا ، فأفرغها من صدري ، ثم أطبقه ، ثم أخذ بيدي فعرج بنا إلى السماء . . . فنزل فذكر القصة . فرج سقف بيتي ، وأنا
وروى قتادة الحديث ، بمثله ، عن أنس ، عن مالك بن صعصعة ، وفيها تقديم وتأخير ، ونقص ، وخلاف في ترتيب الأنبياء في السماوات . وحديث ثابت ، عن أنس أتقن ، وأجود .
وقد وقعت في حديث الإسراء ، زيادات نذكر منها نكتا مفيدة في عرضنا :
منها في حديث ، وفيه قول كل نبي له : مرحبا بالنبي الصالح ، والأخ الصالح ، ابن شهاب
إلا آدم وإبراهيم فقالا له : والابن الصالح .
وفيه من طريق : ابن عباس ثم عرج بي حتى ظهرت بمستوى أسمع فيه صريف الأقلام .
وعن أنس : ثم انطلق بي حتى أتيت سدرة المنتهى ، فغشيها ألوان لا أدري ما هي ؟ قال : ثم أدخلت الجنة .
وفي حديث مالك بن صعصعة : موسى بكى ، فنودي : ما يبكيك ؟ قال : رب ، هذا غلام بعثته بعدي يدخل من أمته الجنة أكثر مما يدخل من أمتي . فلما جاوزته يعني
وفي حديث - رضي الله عنه - : أبي هريرة محمد ، هذا مالك خازن النار ، فسلم عليه . فالتفت فبدأني بالسلام . وقد رأيتني في جماعة من الأنبياء ، فحانت الصلاة ، فأممتهم ، فقال قائل : يا
وفي حديث : أبي هريرة ثم سار حتى أتى بيت المقدس ، فنزل فربط [ ص: 227 ] فرسه إلى صخرة ، فصلى مع الملائكة ، فلما قضيت الصلاة قالوا : يا جبريل ، من هذا معك ؟ قال : هذا محمد رسول الله خاتم النبيين : قالوا : وقد أرسل إليه ؟ قال : نعم . قالوا : حياه الله من أخ ، وخليفة ، فنعم الأخ ، ونعم الخليفة ! ثم لقوا أرواح الأنبياء فأثنوا على ربهم .
وذكر كلام كل واحد منهم ، وهم إبراهيم ، وموسى ، وعيسى ، وداود ، وسليمان .
ثم ذكر كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فقال : وإن محمدا - صلى الله عليه وسلم - أثنى على ربه عز وجل فقال : كلكم أثنى على ربه ، وأنا أثنى علي ربي . الحمد لله الذي أرسلني رحمة للعالمين ، وكافة للناس بشيرا ، ونذيرا ، وأنزل علي الفرقان فيه تبيان كل شيء . وجعل أمتي خير أمة ، وجعل أمتي أمة وسطا ، وجعل أمتي هم الأولون ، وهم الآخرون ، وشرح لي صدري ، ووضع عني ، وزري ، ورفع لي ذكري ، وجعلني فاتحا ، وخاتما .
فقال إبراهيم : بهذا فضلكم محمد .
ثم ذكر أنه عرج به إلى السماء الدنيا ، ومن سماء إلى سماء ، نحو ما تقدم .
وفي حديث : ابن مسعود إذ يغشى السدرة ما يغشى [ النجم : 16 ] ، قال : فراش من ذهب . وانتهى بي إلى سدرة المنتهى ، وهي في السماء السادسة ، إليها ينتهي ما يعرج به من الأرض فيقبض منها وإليها ينتهي ما يهبط من فوقها فيقبض منها ، قال :
وفي رواية ، من طريق أبي هريرة . الربيع بن أنس فقيل لي : هذه السدرة المنتهى ينتهي إليها كل أحد من أمتك خلا على سبيلك ، وهي السدرة المنتهى ، يخرج من أصلها أنهار من ماء غير آسن ، وأنهار من لبن لم يتغير طعمه ، وأنهار من خمر لذة للشاربين ، وأنهار من عسل مصفى ، وهي شجرة يسير الراكب في ظلها سبعين عاما ، وأن ورقة منها مظلة الخلق ، فغشيها نور ، وغشيتها الملائكة .
قال : فهو قوله : إذ يغشى السدرة ما يغشى [ النجم : 16 ] .
فقال تبارك ، وتعالى - له : سل . فقال : إنك اتخذت إبراهيم خليلا ، وأعطيته ملكا عظيما . وكلمت موسى تكليما ، وأعطيت داود ملكا عظيما ، وألنت له الحديد ، وسخرت له الجبال ، وأعطيت سليمان ملكا عظيما ، وسخرت له الجن ، والإنس ، والشياطين ، والرياح ، وأعطيته ملكا لا ينبغي لأحد من بعده ، وعلمت عيسى التوراة ، والإنجيل ، وجعلته يبرئ [ ص: 228 ] الأكمه ، والأبرص ، وأعذته ، وأمه من الشيطان الرجيم ، فلم يكن له عليهما سبيل .
فقال له ربه - تعالى - : قد اتخذتك خليلا وحبيبا . فهو مكتوب في التوراة : محمد حبيب الرحمن وأرسلتك إلى الناس كافة ، وجعلت أمتك هم الأولون ، وهم الآخرون ، وجعلت أمتك لا تجوز لهم خطبة حتى يشهدوا أنك عبدي ، ورسولي ، وجعلتك أول النبيين خلقا ، وآخرهم بعثا ، وأعطيتك سبعا من المثاني ، ولم أعطها نبيا قبلك ، وأعطيتك خواتيم سورة البقرة من كنز تحت عرشي لم أعطها نبيا قبلك ، وجعلتك فاتحا ، وخاتما .
وفي الرواية الأخرى قال : . فأعطي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاثا : أعطي الصلوات الخمس ، وأعطي خواتيم سورة البقرة ، وغفر لمن لا يشرك بالله شيئا من أمته المقحمات
وقال : ما كذب الفؤاد ما رأى [ النجم : 11 ] : رأى جبريل في صورته له ستمائة جناح .
وفي حديث شريك أنه موسى في السابعة قال : بتفضيل كلام الله . رأى
قال : موسى : لم أظن أن يرفع علي أحد . ثم علا به فوق ذلك بما لا يعلمه إلا الله ، فقال
وروي عن أنس أنه - صلى الله عليه وسلم - صلى بالأنبياء ببيت المقدس .
وعن أنس - رضي الله عنه - ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : بينما أنا قاعد ذات يوم إذ دخل جبريل ، فوكز بين كتفي ، فقمت إلى شجرة فيها مثل وكري الطائر ، فقعد في واحدة ، وقعدت في الأخرى ، فنمت حتى سدت الخافقين . ولو شئت لمست السماء ، وأنا أقلب طرفي ونظرت جبريل كأنه حلس لاطئ فعرفت فضل علمه بالله علي ، وفتح لي باب السماء ، ورأيت النور الأعظم ، ولط دوني الحجاب ، وفرجه الدر ، والياقوت . ثم أوحى الله إلي ما شاء أن يوحي ] .
وذكر البزار عن - رضي الله عنه - : علي بن أبي طالب جبريل بدابة يقال لها البراق ، فذهب يركبها ، فاستصعبت عليه ، فقال لها لما أراد الله - تعالى - أن يعلم رسوله الأذان جاءه جبريل : اسكني ، فوالله ما ركبك عبد أكرم على الله من محمد - صلى الله عليه وسلم - ، فركبها حتى أتى إلى الحجاب الذي يلي الرحمن - تعالى - ، فبينما هو كذلك إذ خرج ملك من الحجاب ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : يا جبريل ، من هذا ؟ قال : والذي بعثك بالحق ، إني لأقرب [ ص: 229 ] الخلق مكانا ، وإن هذا الملك ما رأيته منذ خلقت قبل ساعتي هذه . فقال الملك : الله أكبر الله أكبر . فقيل له من وراء الحجاب : صدق عبدي ، أنا أكبر أنا أكبر . ثم قال الملك : أشهد أن لا إله إلا الله . فقيل له من وراء الحجاب : صدق عبدي ، أنا الله لا إله إلا أنا .
وذكر مثل هذا في بقية الأذان إلا أنه لم يذكر جوابا عن قوله : حي على الصلاة ، حي على الفلاح .
وقال : ثم أخذ الملك بيد محمد ، فقدمه فأم أهل السماء فيهم آدم ، ونوح .
قال راويه : أكمل الله - تعالى - أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين لمحمد - صلى الله عليه وسلم - الشرف على أهل السماوات ، والأرض .
قال القاضي - وفقه الله - : ما في هذا الحديث من ذكر الحجاب فهو في حق المخلوق لا في حق الخالق ، فهم المحجوبون ، والباري جل اسمه منزه عما يحجبه ، إذ الحجب إنما تحيط بمقدر محسوس ؛ ولكن حجبه على أبصار خلقه وبصائرهم وإدراكاتهم بما شاء ، وكيف شاء ، ومتى شاء ، كقوله - تعالى - : كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون [ المطففين : 15 ] .
فقوله في هذا الحديث : الحجاب وإذ خرج ملك من الحجاب يجب أن يقال : إنه حجاب حجب به من وراءه من ملائكته عن الاطلاع على ما دونه من سلطانه وعظمته ، وعجائب ملكوته ، وجبروته .
ويدل عليه من الحديث قول جبريل عن الملك الذي خرج من ورائه : إن هذا الملك ما رأيته منذ خلقت قبل ساعتي هذه .
فدل على أن هذا الحجاب لم يختص بالذات .
ويدل عليه قول كعب في تفسير : سدرة المنتهى قال : إليها ينتهي علم الملائكة ، وعندها يجدون أمر الله ، لا يجاوزها علمهم .
وأما قوله : الذي يلي الرحمن فيحمل على حذف المضاف ، أي يلي عرش الرحمن أو أمرا ما من عظيم آياته ، أو مبادئ حقائق معارفه ، مما هو أعلم به ، كما قال - تعالى - : واسأل القرية [ يوسف : 82 ] ، أي أهلها .
وقوله : فقيل من وراء الحجاب : صدق عبدي ، أنا أكبر فظاهره أنه سمع في هذا الموطن كلام الله ، ولكن من وراء الحجاب ، كما قال : وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب [ الشورى : 51 ] ، أي ، وهو لا يراه ، حجب بصره عن رؤيته .
فإن صح القول بأن محمدا - صلى الله عليه وسلم - رأى ربه عز وجل فيحتمل أنه في غير هذا الموطن بعد هذا أو قبله ، رفع الحجاب عن بصره حتى رآه . والله أعلم .