الفصل الرابع : إبطال الحجج
في احتجوا بقوله - تعالى - : إبطال حجج من قال : إنها نوم وما جعلنا الرؤيا التي أريناك [ الإسراء : 60 ] ، فسماها رؤيا .
قلنا : قوله سبحانه وتعالى - : الذي أسرى بعبده [ الإسراء : 1 ] يرده ، لأنه لا يقال في النوم : أسرى .
وقوله : فتنة للناس . يؤيد أنها رؤيا عين وإسراء بشخص ؛ إذ ليس في الحلم فتنة . ولا يكذب به أحد ، لأن كل أحد يرى مثل ذلك في منامه من الكون في ساعة ، واحدة في أقطار متباينة .
على أن المفسرين قد اختلفوا في هذه الآية ، فذهب بعضهم إلى أنها نزلت في قضية الحديبية ، وما وقع في نفوس الناس من ذلك ، وقيل غير هذا .
وأما قولهم : إنه قد سماها في الحديث مناما .
وقوله في حديث آخر : بين النائم ، واليقظان .
وقوله أيضا : وهو نائم . وقوله : ثم استيقظت . فلا حجة فيه ، إذ قد يحتمل أن أول وصول الملك إليه كان وهو نائم ، أو أول حمله ، والإسراء به [ ص: 234 ] وهو نائم ، وليس في الحديث أنه كان نائما في القصة كلها إلا ما يدل عليه : ثم استيقظت ، وأنا في المسجد الحرام ، فلعل قوله : استيقظت بمعنى أصبحت ، أو استيقظ من نوم آخر بعد وصوله بيته .
ويدل عليه أن مسراه لم يكن طول ليله ، وإنما كان في بعضه .
وقد يكون قوله : استيقظت وأنا في المسجد الحرام لما كان غمره من عجائب ما طالع من ملكوت السماوات والأرض ، وخامر باطنه من مشاهدة الملأ الأعلى ، وما رأى من آيات ربه الكبرى ، فلم يستفق ، ويرجع إلى حال البشرية إلا وهو بالمسجد الحرام .
ووجه ثالث أن يكون نومه ، واستيقاظه حقيقة على مقتضى لفظه ، ولكنه أسري بجسده ، وقلبه حاضر ، ورؤيا الأنبياء حق ، تنام أعينهم ، ولا تنام قلوبهم .
وقد مال بعض أصحاب الإشارات إلى نحو من هذا . قال : تغميض عينيه لئلا يشغله شيء من المحسوسات عن الله - تعالى - .
ولا يصح هذا أن يكون في وقت صلاته بالأنبياء ، ولعله كانت له في هذا الإسراء حالات .
ووجه رابع : وهو أن يعبر بالنوم هاهنا عن هيئة النائم من الاضطجاع ، ويقويه قوله في رواية ، عن عبد بن حميد همام : بينا أنا نائم ، وربما قال : مضطجع .
وفي رواية ، عنه : هدبة بينا أنا نائم في الحطيم ، وربما قال : في الحجر مضطجع وقوله في الرواية الأخرى : فيكون سمى هيئته بالنوم لما كانت هيئة النائم غالبا . بين النائم ، واليقظان .
وذهب بعضهم إلى أن هذه الزيادات : من النوم ، وذكر شق البطن ، ودنو الرب عز وجل الواقعة في هذا الحديث إنما هي من رواية شريك عن أنس ، فهي منكرة من روايته ، إذ شق البطن في الأحاديث الصحيحة إنما كان في صغره - صلى الله عليه وسلم - ، وقبل النبوة ، ولأنه قال في الحديث : قبل أن يبعث ، والإسراء بإجماع كان بعد المبعث ، فهذا كله يوهن ما وقع في رواية أنس ، مع أن أنسا قد بين من غير طريق أنه إنما رواه [ ص: 235 ] عن غيره ، وأنه لم يسمعه من النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فقال مرة عن مالك بن صعصعة ، وفي كتاب مسلم : لعله عن مالك بن صعصعة على الشك . وقال مرة : كان أبو ذر يحدث .
وأما قول عائشة : ما فقدت جسده ، فعائشة لم تحدث به عن مشاهدة ، لأنها لم تكن حينئذ زوجه ، ولا في سن من يضبط ، ولعلها لم تكن ولدت بعد ، على الخلاف في الإسراء متى كان فإن الإسراء كان في أول الإسلام على قول ، ومن وافقه بعد المبعث بعام ونصف ، وكانت الزهري عائشة في الهجرة بنت نحو ثمانية أعوام .
وقد قيل : كان الإسراء لخمس قبل الهجرة ، وقيل : قبل الهجرة بعام . والأشبه أنه لخمس .
والحجة لذلك تطول ، وليست من غرضنا ، فإذا لم تشاهد ذلك عائشة دل أنها حدثت بذلك عن غيرها ، فلم يرجح خبرها على خبر غيرها ، وغيرها يقول خلافه مما وقع نصا في حديث أم هانئ ، وغيره .
وأيضا فليس حديث عائشة - رضي الله عنها - بالثابت ، والأحاديث الأخر أثبت ، ولسنا نعني حديث أم هانئ ، وما ذكرت فيه خديجة .
وأيضا فقد روي في حديث عائشة : [ ما فقدت ] ، ولم يدخل بها النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا بالمدينة .
وكل هذا يوهنه ، بل الذي يدل عليه صحيح قولها : إنه بجسده ، لإنكارها أن تكون رؤياه لربه رؤيا عين ، ولو كانت عندها مناما لم تنكره .
فإن قيل : فقد قال - تعالى - : ما كذب الفؤاد ما رأى [ النجم : 11 ] فقد جعل ما رآه للقلب ، وهنا يدل على أنه رؤيا نوم ، ووحي ، لا مشاهدة عين ، وحس .
قلنا : يقابله قوله - تعالى - : ما زاغ البصر وما طغى [ النجم : 17 ] فقد أضاف الأمر للبصر .
وقد قال أهل التفسير في قوله - تعالى - . ما كذب الفؤاد ما رأى [ النجم : 11 ] ، أي لم يوهم القلب العين غير الحقيقة ، بل صدق رؤيتها . وقيل : ما أنكر قلبه ما رأته عينه .