وإذا لم يكن بد من فهلم نحاكمك إلى ذوق لا ننكره نحن ولا أنت غير هذه الأذواق التي ذكرناها . المحاكمة إلى الذوق ،
فالقلب يعرض له حالتان : حالة حزن وأسف على مفقود ، وحالة فرح ورضى بموجود ، وله بمقتضى هاتين الحالتين عبوديتان .
وله بمقتضى الحالة الأولى عبودية الرضاء ، وهي للسابقين ، والصبر وهي لأصحاب اليمين .
[ ص: 495 ] وله بمقتضى الحالة الثانية عبودية الشكر ، والشاكرون فيها أيضا نوعان : سابقون ، وأصحاب يمين ، فاقتطعته النفس والشيطان عن هاتين العبوديتين ، بصوتين أحمقين فاجرين ، هما للشيطان لا للرحمن : صوت الندب والنياحة عند الحزن وفوات المحبوب ، وصوت اللهو والمزمار والغناء عند الفرح وحصول المطلوب ، فعوضه الشيطان بهذين الصوتين عن تينك العبوديتين .
وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذا المعنى بعينه في حديث أنس رضي الله عنه " " . إنما نهيت عن صوتين أحمقين ، فاجرين : صوت ويل عند مصيبة ، وصوت مزمار عند نعمة
ووافق ذلك راحة من النفس وشهوة ولذة ، وسرت فيها تلك الرقائق حتى تعبد بها من قل نصيبه من النور النبوي ، وقل مشربه من العين المحمدية ، وانضاف ذلك إلى صدق وطلب وإرادة مضادة لشهوات أهل الغي وأهل البطالة ، ورأوا قساوة قلوب المنكرين لطريقتهم ، وكثافة حجبهم ، وغلظة طباعهم ، وثقل أرواحهم ، وصادف ذلك تحركا لسواكنهم ، وانقيادا للواعج الحب ، وإزعاجا للنفوس إلى أوطانها الأولى ومعاهدها التي سبيت منها . والنفوس الطالبة المرتاضة السائرة لا بد لها من محرك يحركها ، وحاد يحدوها ، وليس لها من حادي القرآن عوض عن حادي السماع .
فتركب من هذه الأمور إيثار منهم للسماع ، ومحبة صادقة له ، تزول الجبال عن أماكنها ولا تفارق قلوبهم ، إذ هو مثير عزماتهم ومحرك سواكنهم ، ومزعج بواطنهم .
فدواء صاحب مثل هذا الحال أن ينقل بالتدريج إلى سماع القرآن بالأصوات الطيبة ، مع الإمعان في تفهم معانيه ، وتدبر خطابه قليلا قليلا ، إلى أن ينخلع من قلبه سماع الأبيات ، ويلبس محبة سماع الآيات ، ويصير ذوقه وشربه وحاله ووجده فيه ، فحينئذ يعلم هو من نفسه أنه لم يكن على شيء ، ويتمثل حينئذ بقول القائل :
وكنت أرى أن قد تناهى بي الهوى إلى غاية ما فوقها لي مطلب فلما تلاقينا وعاينت حسنها
تيقنت أني إنما كنت ألعب
ومعلوم عند الخاصة والعامة أن أعظم من فتنة النوح بكثير ، والذي شاهدناه نحن وغيرنا وعرفناه بالتجارب أنه ما ظهرت المعازف وآلات اللهو في قوم ، وفشت فيهم ، واشتغلوا بها ، إلا سلط الله عليهم العدو ، وبلوا بالقحط والجدب وولاة السوء ، والعاقل يتأمل أحوال العالم وينظر والله المستعان . فتنة سماع الغناء والمعازف
ولا تستطل كلامنا في هذه المنزلة ، فإن لها عند القوم شأنا عظيما .
وأما قولهم : من أنكر على أهله فقد أنكر على كذا وكذا ولي لله ، فحجة عامية ، نعم إذا أنكر أولياء الله على أولياء الله كان ماذا ؟ فقد أنكر عليهم من أولياء الله من هو أكثر منهم عددا ، وأعظم عند الله وعند المؤمنين منهم قدرا ، وأقرب بالقرون المفضلة عهدا ، وليس من شرط ولي الله العصمة ، وقد تقاتل أولياء الله في صفين بالسيوف ، ولما سار بعضهم إلى بعض كان يقال : سار أهل الجنة إلى أهل الجنة . وكون ولي الله يرتكب المحظور والمكروه متأولا أو عاصيا لا يمنع ذلك من الإنكار عليه ، ولا يخرجه عن أصل ولاية الله ، وهيهات هيهات أن يكون أحد من أولياء الله المتقدمين حضر هذا السماع المحدث المبتدع ، المشتمل على هذه الهيئة التي تفتن القلوب أعظم من فتنة المشروب ، وحاشا أولياء الله من ذلك وإنما السماع الذي اختلف فيه مشايخ القوم : اجتماعهم في مكان خال من الأغيار يذكرون الله ، ويتلون شيئا من القرآن ، ثم يقوم بينهم قوال ينشدهم شيئا من الأشعار المزهدة في الدنيا ، المرغبة في لقاء الله ومحبته ، وخوفه ورجائه ، والدار الآخرة ، وينبههم على بعض أحوالهم من يقظة أو غفلة ، أو بعد أو انقطاع ، أو تأسف على فائت ، أو تدارك لفارط ، أو وفاء بعهد ، أو تصديق بوعد ، أو ذكر قلق وشوق ، أو خوف فرقة أو صد ، وما جرى هذا المجرى .
فهذا السماع الذي اختلف فيه القوم ، لا سماع المكاء والتصدية ، والمعازف والخمريات . وعشق الصور من المردان والنسوان ، وذكر محاسنها ووصالها وهجرانها ، فهذا لو سئل عنه من سئل من أولي العقول لقضى بتحريمه ، وعلم أن الشرع لا يأتي بإباحته [ ص: 497 ] ، وأنه ليس على الناس أضر منه ، ولا أفسد لعقولهم وقلوبهم وأديانهم وأموالهم وأولادهم وحريمهم منه ، والله أعلم .