[ ص: 44 ] فصل منزلة الغيرة
ومن منازل " إياك نعبد وإياك نستعين " منزلة الغيرة
قال الله تعالى قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن وفي الصحيح عن أبي الأحوص عن - رضي الله عنه - . قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : عبد الله بن مسعود . ما أحد أغير من الله ، ومن غيرته : حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن . وما أحد أحب إليه المدح من الله . ومن أجل ذلك أثنى على نفسه . وما أحد أحب إليه العذر من الله . من أجل ذلك : أرسل الرسل مبشرين ومنذرين
وفي الصحيح أيضا ، من حديث أبي سلمة ، عن - رضي الله عنه - . أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . قال أبي هريرة . إن الله يغار ، وإن المؤمن يغار ، وغيرة الله : أن يأتي العبد ما حرم عليه
وفي الصحيح أيضا : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال سعد ؟ ! لأنا أغير منه . والله أغير مني . أتعجبون من غيرة
ومما يدخل في الغيرة قوله تعالى وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابا مستورا .
قال السري لأصحابه : أتدرون ما هذا الحجاب ؟ حجاب الغيرة . ولا أحد أغير من الله . إن الله تعالى لم يجعل الكفار أهلا لفهم كلامه ، ولا أهلا لمعرفته وتوحيده ومحبته . فجعل بينهم وبين رسوله وكلامه وتوحيده حجابا مستورا عن العيون ، غيرة عليه أن يناله من ليس أهلا به .
[ ص: 45 ] والغيرة منزلة شريفة عظيمة جدا ، جليلة المقدار . ولكن الصوفية المتأخرين منهم من قلب موضوعها . وذهب بها مذهبا باطلا . سماه غيرة فوضعها في غير موضعها . ولبس عليه أعظم تلبيس . كما ستراه .
والغيرة نوعان : غيرة من الشيء . وغيرة على الشيء .
والغيرة من الشيء : هي كراهة مزاحمته ومشاركته لك في محبوبك .
والغيرة على الشيء : هي شدة حرصك على المحبوب أن يفوز به غيرك دونك أو يشاركك في الفوز به .
والغيرة أيضا نوعان : غيرة العبد من نفسه على نفسه ، كغيرته من نفسه على قلبه ، ومن تفرقته على جمعيته ، ومن إعراضه على إقباله ، ومن صفاته المذمومة على صفاته الممدوحة .
وهذه الغيرة خاصية النفس الشريفة الزكية العلوية . وما للنفس الدنية المهينة فيها نصيب . وعلى قدر شرف النفس وعلو همتها تكون هذه الغيرة .
ثم الغيرة أيضا نوعان : غيرة الحق تعالى على عبده ، وغيرة العبد لربه لا عليه . فأما غيرة الرب على عبده : فهي أن لا يجعله للخلق عبدا . بل يتخذه لنفسه عبدا . فلا يجعل له فيه شركاء متشاكسين . بل يفرده لنفسه . ويضن به على غيره . وهذه أعلى الغيرتين .
وغيرة العبد لربه ، نوعان أيضا : غيرة من نفسه . وغيرة من غيره . فالتي من نفسه : أن لا يجعل شيئا من أعماله وأقواله وأحواله وأوقاته وأنفاسه لغير ربه ، والتي من غيره : أن يغضب لمحارمه إذا انتهكها المنتهكون . ولحقوقه إذا تهاون بها المتهاونون .
وأما الغيرة على الله : فأعظم الجهل وأبطل الباطل . وصاحبها من أعظم الناس جهلا . وربما أدت بصاحبها إلى معاداته وهو لا يشعر . وإلى انسلاخه من أصل الدين والإسلام .
وربما كان صاحبها شرا على السالكين إلى الله من قطاع الطريق . بل هو من قطاع طريق السالكين حقيقة . وأخرج قطع الطريق في قالب الغيرة . وأين هذا من الغيرة لله ؟ التي توجب تعظيم حقوقه ، وتصفية أعماله وأحواله لله ؟ فالعارف يغار لله . والجاهل يغار على الله . فلا يقال : أنا أغار على الله . ولكن أنا أغار لله .
وغيرة العبد من نفسه : أهم من غيرته من غيره . فإنك إذا غرت من نفسك صحت لك غيرتك لله من غيرك ، وإذا غرت له من غيرك ، ولم تغر من نفسك : فالغيرة مدخولة [ ص: 46 ] معلولة ولا بد . فتأملها وحقق النظر فيها .
فليتأمل السالك اللبيب هذه الكلمات في هذا المقام ، الذي زلت فيه أقدام كثير من السالكين . والله الهادي والموفق المثبت .
كما حكي عن واحد من مشهوري الصوفية ، أنه قال : لا أستريح حتى لا أرى من يذكر الله . يعني غيرة عليه من أهل الغفلة وذكرهم .
والعجب أن هذا يعد من مناقبه ومحاسنه .
وغاية هذا : أن يعذر فيه لكونه مغلوبا على عقله . وهو من أقبح الشطحات . وذكر الله على الغفلة وعلى كل حال خير من نسيانه بالكلية . والألسن متى تركت ذكر الله - الذي هو محبوبها - اشتغلت بذكر ما يبغضه ويمقت عليه . فأي راحة للعارف في هذا ؟ وهل هو إلا أشق عليه ، وأكره إليه ؟
وقول آخر : . فقيل له : كيف ؟ قال : غيرة عليه من نظر مثلي . لا أحب أن أرى الله ولا أنظر إليه
فانظر إلى هذه الغيرة القبيحة ، الدالة على جهل صاحبها ، مع أنه في خفارة ذله وتواضعه وانكساره واحتقاره لنفسه .
ومن هذا ما يحكى عن الشبلي : أنه لما مات ابنه دخل الحمام ونور لحيته ، حتى أذهب شعرها كله . فكل من أتاه معزيا ، قال : إيش هذا يا أبا بكر ؟ قال : وافقت أهلي في قطع شعورهم . فقال له بعض أصحابه : أخبرني لم فعلت هذا ؟ فقال : علمت أنهم يعزونني على الغفلة ويقولون : آجرك الله . ففديت ذكرهم لله على الغفلة بلحيتي .
فانظر إلى هذه الغيرة المحرمة القبيحة ، التي تضمنت أنواعا من المحرمات : حلق الشعر عند المصيبة ، وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : [ ص: 47 ] أي حلق شعره ، ورفع صوته بالندب والنياحة . وخرق ثيابه . ليس منا من حلق وسلق وخرق
ومنها : حلق اللحية ، وقد أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بإعفائها وتوفيرها .
ومنها : منع إخوانه من تعزيته ونيل ثوابها .
ومنها : كراهته لجريان ذكر الله على ألسنتهم بالغفلة . وذلك خير بلا شك من ترك ذكره .
فغاية صاحب هذا : أن تغفر له هذه الذنوب ويعفى عنه . وأما أن يعد ذلك في مناقبه ، وفي الغيرة المحمودة فسبحانك هذا بهتان عظيم .
ومن هذا : ما ذكر عن أبي الحسين النوري : أنه سمع رجلا يؤذن . فقال : طعنه وسم الموت .
وسمع كلبا ينبح ، فقال : لبيك وسعديك . فقالوا له : هذا ترك للدين .
وصدقوا والله ، يقول للمؤذن في تشهده : طعنه . وسم الموت . ويلبي نباح الكلب ؟
فقال : أما ذاك فكان يذكر الله عن رأس الغفلة . وأما الكلب : فقد قال تعالى وإن من شيء إلا يسبح بحمده .
فيالله ! ! ماذا ترى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يواجه هذا القائل لو رآه يقول ذلك ، أو ، أو من عد ذلك في المناقب والمحاسن ؟ ! . عمر بن الخطاب
وسمع الشبلي رجلا يقول : جل الله . فقال : أحب أن تجله عن هذا .
وأذن مرة . فلما بلغ الشهادتين ، قال : لولا أنك أمرتني ما ذكرت معك غيرك . وقال بعض الجهال من القوم : لا إله إلا الله من أصل القلب ، ومحمد رسول الله من القرط .
ونحن نقول : محمد رسول الله ، من تمام قول لا إله إلا الله . فالكلمتان يخرجان من أصل القلب ، من مشكاة واحدة . لا تتم إحداهما إلا بالأخرى .