قال : الدرجة الثانية : . وهي تسبل لباس التولي وتذيق طعم التجلي . وتعصم من عوار التسلي . ملاحظة نور الكشف
هذه الدرجة : أتم مما قبلها . فإن تلك الدرجة : ملاحظة ما سبق بنور العلم . وهذه ملاحظة كشف بحال قد استولى على قلبه ، حتى شغله عن الخلق . فأسبل عليه لباس توليه الله وحده وتوليه عما سواه .
ونور الكشف عندهم : هو مبدأ الشهود . وهو نور تجلي معاني الأسماء الحسنى على القلب . فتضيء به ظلمة القلب . ويرتفع به حجاب الكشف .
ولا تلتفت إلى غير هذا ، فتزل قدم بعد ثبوتها . فإنك تجد في كلام بعضهم : تجلي الذات يقتضي كذا وكذا ، وتجلي الصفات يقتضي كذا وكذا ، وتجلي الأفعال يقتضي كذا وكذا . والقوم عنايتهم بالألفاظ . فيتوهم المتوهم : أنهم يريدون تجلي حقيقة الذات والصفات والأفعال للعيان ، فيقع من يقع منهم في الشطحات والطامات . [ ص: 110 ] والصادقون العارفون برآء من ذلك .
وإنما يشيرون إلى كمال المعرفة ، وارتفاع حجب الغفلة والشك والإعراض ، واستيلاء سلطان المعرفة على القلب بمحو شهود السوى بالكلية . فلا يشهد القلب سوى معروفه .
وينظرون هذا بطلوع الشمس . فإنها إذا طلعت انطمس نور الكواكب . ولم تعدم الكواكب . وإنما غطى عليها نور الشمس . فلم يظهر لها وجود . وهي في الواقع موجودة في أماكنها . وهكذا نور المعرفة إذا استولى على القلب ، قوي سلطانها ، وزالت الموانع والحجب عن القلب .
ولا ينكر هذا إلا من ليس من أهله .
ولا يعتقد أن الذات المقدسة والأوصاف : برزت وتجلت للعبد - كما تجلى سبحانه للطور ، وكما يتجلى يوم القيامة للناس - إلا غالط فاقد للعلم . وكثيرا ما يقع الغلط من التجاوز من نور العبادات والرياضة والذكر إلى نور الذات والصفات .
فإن العبادة الصحيحة ، والرياضة الشرعية ، والذكر المتواطئ عليه القلب واللسان : يوجب نورا على قدر قوته وضعفه . وربما قوي ذلك النور حتى يشاهد بالعيان . فيظنه فيه ضعيف العلم والتمييز بين خصائص الربوبية ومقتضيات العبودية . فيظنه نور الذات ، وهيهات ! ثم هيهات ! نور الذات لا يقوم له شيء ، ولو كشف سبحانه وتعالى الحجاب عنه لتدكدك العالم كله ، كما تدكدك الجبل وساخ لما ظهر له القدر اليسير من التجلي .
وفي الصحيح عنه - صلى الله عليه وسلم - . إن الله سبحانه لا ينام . ولا ينبغي له أن ينام ، يخفض القسط ويرفعه . يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار ، وعمل النهار قبل عمل الليل . حجابه النور . لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه
فالإسلام له نور . والإيمان له نور أقوى منه . والإحسان له نور أقوى منهما . فإذا اجتمع الإسلام والإيمان والإحسان ، وزالت الحجب الشاغلة عن الله تعالى : امتلأ القلب والجوارح بذلك النور . لا بالنور الذي هو صفة الرب تعالى . فإن صفاته لا تحل في شيء من مخلوقاته .
كما أن مخلوقاته لا تحل فيه . فالخالق سبحانه بائن عن [ ص: 111 ] المخلوق بذاته وصفاته . فلا اتحاد ، ولا حلول ، ولا ممازجة . تعالى الله عن ذلك كله علوا كبيرا .
قوله " ويعصم من عوار التسلي " العوار : العيب . والتسلي السلوة عن المحبوب الذي لا حياة للقلب ولا نعيم إلا بحبه والقرب منه ، والأنس بذكره . فإن سلو القلب وغفلته عن ذكره : هو من أعظم العيوب . فهذه الملاحظة إذا صدقت عصمت صاحبها عن عيب سلوته عن مطلوبه ومراده . فإنه في هذه الدرجة مستغرق في شهود الأسماء والصفات .
وقد استولى على قلبه نور الإيمان بها ومعرفتها ، ودوام ذكرها . ومع هذا : فباب السلوة عليه مسدود ، وطريقها عليه مقطوع . والمحب يمكنه التسلي قبل أن يشاهد جمال محبوبه ، ويستغرق في شهود كماله ، ويغيب به عن غيره . فإذا وصل إلى هذه الحال كان كما قيل :
مرت بأرجاء الخيال طيوفه فبكت على رسم السلو الدارس