الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين

ابن القيم - أبو عبد الله محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية

صفحة جزء
فصل

قال : الدرجة الثالثة : سرور سماع الإجابة . وهو سرور يمحو آثار الوحشة . ويقرع باب المشاهدة . ويضحك الروح .

قيد الشيخ السماع : بكونه سماع إجابة فإنه السماع المنتفع به ، لا مجرد سماع الإدراك . فإنه مشترك بين المجيب والمعرض . وبه تقوم الحجة وينقطع العذر . ولهذا قال الله عن أصحابه سمعنا وعصينا وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - - لليهودي الذي سأله عن أمور الغيب - : ينفعك إن حدثتك ؟ قال : أسمع بأذني .

وأما سماع الإجابة : ففي مثل قوله تعالى : وفيكم سماعون لهم أي مستجيبون لهم . وفي قوله : سماعون للكذب أي : مستجيبون له . وهو المراد . وهذا المراد بقول المصلي : سمع الله لمن حمده أي أجاب الله حمد من حمده . وهو [ ص: 160 ] السمع الذي نفاه الله عز وجل عمن لم يرد به خيرا . في قوله : ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم أي لجعلهم يسمعون سمع إجابة وانقياد . وقيل : المعنى لأفهمهم . وعلى هذا : يكون المعنى لأسمع قلوبهم . فإن سماع القلب يتضمن الفهم .

والتحقيق : أن كلا الأمرين مراد . فلو علم فيهم خيرا لأفهمهم ، ولجعلهم يستجيبون لما سمعوه وفهموه .

والمقصود : أن سماع الإجابة هو سماع انقياد القلب ، والروح ، والجوارح ، لما سمعته الأذنان .

قوله : ويمحو آثار الوحشة ، يعني : يزيل بقايا الوحشة التي سببها ترك الانقياد التام . فإنه على قدر فقد ذلك : تكون الوحشة . وزوالها إنما يكون بالانقياد التام .

وأيضا : فإنه يبقى على أهل الدرجة الثانية آثار . وهم أهل كشف حجاب العلم . فإنهم إذا انكشف عنهم حجاب العلم ، وأفضوا إلى المعرفة : بقيت عليهم بقايا من آثار الحجاب . فإذا حصلوا في هذه الدرجة : زالت عنهم تلك البقايا .

وقد يوجه كلامه على معنى آخر ، وهو : أنه إذا دعا ربه سبحانه . فسمع ربه دعاءه سماع إجابة ، وأعطاه ما سأله ، على حسب مراده ومطلبه ، أو أعطاه خيرا منه : حصل له بذلك سرور يمحو من قلبه آثار ما كان يجده من وحشة البعد . فإن للعطاء والإجابة سرورا وأنسا وحلاوة . وللمنع وحشة ومرارة . فإذا تكرر منه الدعاء ، وتكرر من ربه سماع وإجابة لدعائه : محا عنه آثار الوحشة . وأبدله بها أنسا وحلاوة .

قوله : ويقرع باب المشاهدة .

يريد - والله أعلم - مشاهدة حضرة الجمع التي يشمر إليها السالكون عنده . وإلا فمشاهدة الفضل والمنة : قد سبقت في الدرجتين الأولتين . وانتقل المشاهد لذلك إلى ما هو أعلى منه . وهو مشاهدة الحضرة المذكورة .

قوله " ويضحك الروح " يعني : أن سماع الإجابة يضحك الروح ، لسرورها بما حصل لها من ذلك السماع . وإنما خص الروح بالضحك : ليخرج به سرورا يضحك النفس والعقل والقلب . فإن ذلك يكون قبل رفع الحجاب الذي أشار إليه ، إذ محله النفس . فإذا ارتفع ومحا الشهود رسم النفس بالكلية : كان الإدراك حينئذ بالروح . فيضحكها بالسرور .

[ ص: 161 ] وهذا مبني على قواعد القوم في الفرق بين أحكام النفس والقلب والروح .

و " الفتح " عندهم نوعان : فتح قلبي ، وفتح روحي . فالفتح القلبي : يجمعه على الله ويلم شعثه ، والفتح الروحي : يغنيه عنه ، ويجرده منه ، وبالله التوفيق .

التالي السابق


الخدمات العلمية