والفرق بين العلم والمعرفة لفظا ومعنى ، أما اللفظ : ففعل المعرفة يقع على مفعول واحد ، تقول : عرفت الدار ، وعرفت زيدا ، قال تعالى : فعرفهم وهم له منكرون ، وقال : يعرفونه كما يعرفون أبناءهم .
وفعل العلم يقتضي مفعولين ، كقوله تعالى : فإن علمتموهن مؤمنات وإن وقع على مفعول واحد ، كان بمعنى المعرفة ، كقوله : وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم وأما الفرق المعنوي فمن وجوه :
أحدها : أن المعرفة تتعلق بذات الشيء ، والعلم يتعلق بأحواله ، فتقول : عرفت أباك ، وعلمته صالحا عالما ، ولذلك جاء الأمر في القرآن بالعلم دون المعرفة ، كقوله تعالى : فاعلم أنه لا إله إلا الله ، وقوله : اعلموا أن الله شديد العقاب ، وقوله : فاعلموا أنما أنزل بعلم الله .
فالمعرفة : حضور صورة الشيء ومثاله العلمي في النفس ، والعلم : حضور أحواله وصفاته ونسبتها إليه ، فالمعرفة : تشبه التصور ، والعلم : يشبه التصديق .
[ ص: 315 ] الثاني : أن المعرفة في الغالب تكون لما غاب عن القلب بعد إدراكه ، فإذا أدركه قيل : عرفه ، أو تكون لما وصف له بصفات قامت في نفسه ، فإذا رآه وعلم أنه الموصوف بها ، قيل : عرفه ، قال الله تعالى : ويوم يحشرهم كأن لم يلبثوا إلا ساعة من النهار يتعارفون بينهم ، وقال تعالى : وجاء إخوة يوسف فدخلوا عليه فعرفهم وهم له منكرون ، وقال : الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم لما كانت صفاته معلومة عندهم ، فرأوه : عرفوه بتلك الصفات ، وفي الحديث الصحيح : إن الله تعالى يقول لآخر أهل الجنة دخولا : أتعرف الزمان الذي كنت فيه ؟ فيقول : نعم . فيقول : تمن ، فيتمنى على ربه وقال تعالى : وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فالمعرفة : تشبه الذكر للشيء ، وهو حضور ما كان غائبا عن الذكر ، ولهذا كان ضد المعرفة الإنكار ، وضد العلم الجهل ، قال تعالى : يعرفون نعمة الله ثم ينكرونها ويقال : عرف الحق فأقر به ، وعرفه فأنكره .
الوجه الثالث من الفرق : أن المعرفة تفيد تمييز المعروف عن غيره والعلم يفيد تمييز ما يوصف به عن غيره ، وهذا الفرق غير الأول ، فإن ذاك يرجع إلى إدراك الذات وإدراك صفاتها ، وهذا يرجع إلى تخليص الذات من غيرها ، وتخليص صفاتها من صفات غيرها .
الفرق الرابع : أنك إذا قلت : علمت زيدا ، لم يفد المخاطب شيئا ؛ لأنه ينتظر [ ص: 316 ] بعد : أن تخبره على أي حال علمته ؟ فإذا قلت : كريما أو شجاعا ، حصلت له الفائدة ، وإذا قلت : عرفت زيدا . استفاد المخاطب ، أنك أثبته وميزته عن غيره ، ولم يبق منتظرا لشيء آخر ، وهذا الفرق في التحقيق إيضاح للفرق الذي قبله .
الفرق الخامس وهو فرق العسكري في فروقه وفروق غيره : أن المعرفة علم بعين الشيء مفصلا عما سواه ، بخلاف العلم فإنه قد يتعلق بالشيء مجملا ، وهذا يشبه فرق صاحب المنازل ، فإنه قال : المعرفة إحاطة بعين الشيء كما هو ، وعلى هذا الحد : فلا يتصور أن يعرف الله ألبتة ، ويستحيل عليه هذا الباب بالكلية فإن الله سبحانه لا يحاط به علما ، ولا معرفة ولا رؤية ، فهو أكبر من ذلك وأجل وأعظم ، قال تعالى : يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون به علما بل حقيقة هذا الحد : انتفاء تعلق المعرفة بأكبر المخلوقات حتى بأظهرها ، وهو الشمس والقمر ، بل لا يصح أن يعرف أحد نفسه وذاته ألبتة .
والفرق بين العلم والمعرفة عند أهل هذا الشأن : أن المعرفة عندهم هي العلم الذي يقوم العالم بموجبه ومقتضاه ، فلا يطلقون المعرفة على مدلول العلم وحده ، بل لا يصفون بالمعرفة إلا من كان عالما بالله ، وبالطريق الموصل إلى الله ، وبآفاتها وقواطعها ، وله حال مع الله تشهد له بالمعرفة ، فالعارف عندهم من عرف الله سبحانه بأسمائه وصفاته وأفعاله ، ثم صدق الله في معاملته ، ثم أخلص له في قصوده ونياته ، ثم انسلخ من أخلاقه الرديئة وآفاته ، ثم تطهر من أوساخه وأدرانه ومخالفاته ، ثم صبر على أحكام الله في نعمه وبلياته ، ثم دعا إليه على بصيرة بدينه وآياته ، ثم جرد الدعوة إليه وحده بما جاء به رسوله ، ولم يشبها بآراء الرجال وأذواقهم ومواجيدهم ومقاييسهم ومعقولاتهم ، ولم يزن بها ما جاء به الرسول عليه من الله أفضل صلواته ، فهذا الذي يستحق اسم العارف على الحقيقة ، إذا سمي به غيره على الدعوى والاستعارة .
[ ص: 317 ] وقد تكلموا على المعرفة بآثارها وشواهدها ، فقال بعضهم : من أمارات المعرفة بالله : حصول الهيبة منه ، فمن ازدادت معرفته ازدادت هيبته .
وقال أيضا : المعرفة توجب السكون ، فمن ازدادت معرفته ازدادت سكينته .
وقال لي بعض أصحابنا : ما علامة المعرفة التي يشيرون إليها ؟ فقلت له : أنس القلب بالله ، قال لي : علامتها أن يحس بقرب قلبه من الله ، فيجده قريبا منه .
وقال الشبلي : ليس لعارف علاقة ، ولا لمحب شكوى ، ولا لعبد دعوى ، ولا لخائف قرار . ولا لأحد من الله فرار .
وهذا كلام جيد ، فإن المعرفة الصحيحة تقطع من القلب العلائق كلها ، وتعلقه بمعروفه ، فلا يبقى فيه علاقة بغيره ، ولا تمر به العلائق إلا وهي مجتازة ، لا تمر مرور استيطان .
وقال أحمد بن عاصم : من كان بالله أعرف كان له أخوف ، ويدل على هذا قوله تعالى : إنما يخشى الله من عباده العلماء وقول النبي صلى الله عليه وسلم : أنا أعرفكم بالله ، وأشدكم له خشية .
وقال آخر : من عرف الله تعالى ضاقت عليه الدنيا بسعتها .
وقال غيره : من عرف الله تعالى اتسع عليه كل ضيق .
ولا تنافي بين هذين الأمرين ، فإنه يضيق عليه كل مكان لا يساعد فيه على شأنه ومطلوبه ، ويتسع عليه ما ضاق على غيره ، لأنه ليس فيه ، ولا هو مساكن له بقلبه ، فقلبه غير محبوس فيه .
والأول : في بداية المعرفة . والثاني : في نهايتها التي يصل إليها العبد .
وقال آخر : من عرف الله تعالى صفا له العيش ، فطابت له الحياة ، وهابه كل شيء ، وذهب عنه خوف المخلوقين ، وأنس بالله .
وقال غيره : من عرف الله قرت عينه بالله ، وقرت عينه بالموت ، وقرت به كل عين ، ومن لم يعرف الله تقطع قلبه على الدنيا حسرات ، ومن عرف الله لم يبق له رغبة [ ص: 318 ] فيما سواه ، ومن ادعى معرفة الله وهو راغب في غيره : كذبت رغبته معرفته ، ومن عرف الله أحبه على قدر معرفته به ، وخافه ورجاه ، وتوكل عليه ، وأناب إليه ، ولهج بذكره ، واشتاق إلى لقائه ، واستحيا منه ، وأجله وعظمه على قدر معرفته به ، وعلامة العارف : أن يكون قلبه مرآة إذا نظر فيها الغيب الذي دعي إلى الإيمان به ، فعلى قدر جلاء تلك المرآة يتراءى له فيها الله سبحانه ، والدار الآخرة ، والجنة والنار ، والملائكة ، والرسل صلوات الله وسلامه عليهم ، كما قيل :
إذا سكن الغدير على صفاء وجنب أن يحركه النسيم بدت فيه السماء بلا امتراء
كذاك الشمس تبدو والنجوم كذاك قلوب أرباب التجلي
يرى في صفوها الله العظيم
ومن علامات المعرفة : أن يبدو لك الشاهد ، وتفنى الشواهد ، وتنحل العلائق ، وتنقطع العوائق ، وتجلس بين يدي الرب تعالى ، وتقوم وتضطجع على التأهب للقائه ، كما يجلس الذي شد أحماله وأزمع السفر على التأهب له ، ويقوم على ذلك ويضطجع عليه ، كما ينزل المسافر في المنزل ، فهو قائم وجالس ومضطجع على التأهب .
وقيل للجنيد : إن أقواما يدعون المعرفة ، يقولون : إنهم يصلون بترك الحركات من باب البر والتقوى ؟ فقال الجنيد : هذا قول أقوام تكلموا بإسقاط الأعمال ، وهو عندي عظيم ، والذي يسرق ويزني أحسن حالا من الذي يقول هذا ، إن العارفين بالله أخذوا الأعمال عن الله ، وإلى الله رجعوا فيها ، ولو بقيت ألف عام لم أنقص من أعمال البر ذرة إلا أن يحال بيني وبينها .
ومن علامات العارف : أنه لا يطالب ولا يخاصم ، ولا يعاتب ، ولا يرى له على أحد فضلا ، ولا يرى له على أحد حقا .
ومن علاماته : أنه لا يأسف على فائت ، ولا يفرح لآت ؛ لأنه ينظر إلى الأشياء بعين الفناء والزوال ؛ لأنها في الحقيقة كالظلال والخيال . وقال الجنيد : لا يكون العارف عارفا حتى يكون كالأرض يطؤها البر والفاجر ، وكالسحاب يظل كل شيء ، وكالمطر يسقي ما يحب وما لا يحب . ، وقال يحيى بن معاذ : يخرج العارف من الدنيا ولم يقض وطره من شيئين : بكاء على نفسه ، وثناء على ربه ، وهذا من أحسن الكلام ، فإنه يدل على معرفته بنفسه وعيوبه وآفاته ، وعلى معرفته بربه وكماله وجلاله ، فهو شديد الإزراء على نفسه ، لهج بالثناء على ربه .
[ ص: 319 ] وقال أبو يزيد : إنما نالوا المعرفة بتضييع ما لهم والوقوف مع ما له .
يريد تضييع حظوظهم ، والوقوف مع حقوق الله سبحانه وتعالى ، فتغنيهم حقوقه عن حظوظهم .
وقال آخر : لا يكون العارف عارفا حتى لو أعطي ملك سليمان لم يشغله عن الله طرفة عين ، وهذا يحتاج إلى شرح ، فإن ما هو دون ذلك يشغل القلب ، لكن يكون اشتغاله بغير الله لله ، فذلك اشتغال به سبحانه ؛ لأنه إذا اشتغل بغيره لأجله لم يشتغل عنه .
قال ابن عطاء : المعرفة على ثلاثة أركان : الهيبة والحياء والأنس . وقيل لذي النون : بم عرفت الله ربك ؟ قال : عرفت ربي بربي ، ولولا ربي لما عرفت ربي . وقيل لعبد الله بن المبارك : بماذا نعرف ربنا ؟ قال : بأنه فوق سماواته على عرشه بائن من خلقه ، فأتى عبد الله بأصل المعرفة التي لا يصح لأحد معرفة ولا إقرار بالله سبحانه إلا به ، وهو المباينة والعلو على العرش .
ومن علامات العارف : أن يعتزل الخلق بينه وبين الله ، حتى كأنهم أموات لا يملكون له ضرا ولا نفعا ، ولا موتا ولا حياة ولا نشورا ، ويعتزل نفسه بينه وبين الخلق ، حتى يكون بينهم بلا نفس ، وهذا معنى قول من قال : العارف يقطع الطريق بخطوتين : خطوة عن نفسه ، وخطوة عن الخلق .
وقيل : العارف ابن وقته ، وهذا من أحسن الكلام وأخصره ، فهو مشغول بوظيفة وقته عما مضى ، وصار في العدم ، وعما لم يدخل بعد في الوجود ، فهمه عمارة وقته الذي هو مادة حياته الباقية .
ومن علاماته : أنه مستأنس بربه ، مستوحش ممن يقطعه عنه ، ولهذا قيل : العارف من أنس بالله ، فأوحشه من الخلق ، وافتقر إلى الله فأغناه عنهم ، وذل لله فأعزه فيهم ، وتواضع لله فرفعه بينهم ، واستغنى بالله فأحوجهم إليه .
وقيل : العارف فوق ما يقول ، والعالم دون ما يقول ، يعني أن العالم علمه أوسع من حاله وصفته ، والعارف حاله وصفته فوق كلامه وخبره .
وقال أبو سليمان الداراني : إن الله تعالى يفتح للعارف على فراشه ما لم يفتح له وهو قائم يصلي ، وقال غيره : العارف تنطق المعرفة على قلبه وحاله وهو ساكت .
وقال ذو النون : لكل شيء عقوبة . وعقوبة العارف انقطاعه عن ذكر الله .
[ ص: 320 ] وقال بعضهم : رياء العارفين أفضل من إخلاص المريدين ، وهذا كلام ظاهره منكر جدا يحتاج إلى شرح ، فالعارف لا يرائي المخلوق طلبا للمنزلة في قلبه وإنما يكون رياؤه نصيحة وإرشادا وتعليما ليقتدى به ، فهو يدعو إلى الله بعمله كما يدعو إليه بقوله ، فهو ينتفع بعلمه وينفع به غيره ، وإخلاص المريد مقصور على نفسه ، فالعارف جمع بين الإخلاص والدعوة إلى الله ، فإخلاصه في قلبه ، وهو يظهر عمله وحاله ليقتدى به ، والعارف ينفع بسكوته ، والعالم إنما ينفع بكلامه .
ولو سكتوا أثنت عليك الحقائق
وقال ذو النون : الزهاد ملوك الآخرة ، وهم فقراء العارفين . وسئل الجنيد عن العارف ؟ فقال : لون الماء لون إنائه ، وهذه كلمة رمز بها إلى حقيقة العبودية ، وهو أن يتلون بتلون أقسام العبودية ، فبينما تراه مصليا إذ رأيته ذاكرا ، أو قارئا ، أو معلما ، أو متعلما ، أو مجاهدا ، أو حاجا ، أو مساعدا للضيف ، أو مغيثا للملهوف ، فيضرب في كل غنيمة من الغنائم بسهم ، فهو مع المتسببين متسبب ، ومع المتعلمين متعلم ، ومع الغزاة غاز ، ومع المصلين مصل ، ومع المتصدقين متصدق ، فهو يتنقل في منازل العبودية من عبودية إلى عبودية ، وهو مقيم على معبود واحد ، لا ينتقل إلى غيره .وقال يحيى بن معاذ : العارف كائن بائن ، وهذا يفسر على وجوه .
منها : أنه كائن مع الخلق بظاهره ، بائن عنهم بسره وقلبه .
ومنها : أنه كائن بربه بائن عن نفسه .
ومنها : أنه كائن مع أبناء الآخرة ، بائن عن أبناء الدنيا .
ومنها : أنه كائن مع الله بموافقته ، بائن عن الناس في مخالفته .
ومنها : أنه داخل في الأشياء خارج منها ، فإن من الناس من هو داخل فيها لا يقدر على الخروج منها ، ومنهم من هو خارج عنها لا يقدر على الدخول فيها ، والعارف داخل فيها خارج منها ، ولعل هذا أحسن الوجوه .
وقال ذو النون : علامة العارف ثلاثة : لا يطفئ نور معرفته نور ورعه ، ولا يعتقد باطنا من العلم ينقضه عليه ظاهر من الحكم ، ولا تحمله كثرة نعم الله على هتك أستار محارم الله .
وهذا من أحسن الكلام الذي قيل في المعرفة ، وهو محتاج إلى شرح ، فإن كثيرا من الناس يرى أن التورع عن الأشياء من قلة المعرفة ، فإن المعرفة متسعة الأكناف ، واسعة الأرجاء . فالعارف واسع موسع ، والسعة تطفئ نور الورع ، فالعارف لا تنقص [ ص: 321 ] معرفته ورعه ، ولا يخالف ورعه معرفته ، كما قال بعضهم : العارف لا ينكر منكرا ؛ لاستبصاره بسر الله في القدر ، فعنده : أن مشاهدة القدر والحقيقة الكونية : هو غاية المعرفة ، وإذا شاهد الحقيقة عذر الخليقة ؛ لأنهم مأسورون في قبضة القدر ، فمن يعذر أصحاب الكبائر والجرائم ، بل أرباب الكفر فهو أبعد خلق الله عن الورع ، بل لظلام معرفته قد أطفأ نور إيمانه .
قوله " باطن العلم الذي ينقضه ظاهر الحكم " فإنه يشير به إلى ما عليه المنحرفون ، ممن ينسب إلى السلوك ، فإنهم يقع لهم أذواق ومواجيد ، وواردات تخالف الحكم الشرعي ، وتكون تلك معلومة لهم لا يمكنهم جحدها ، فيعتقدونها ويتركون بها ظاهر الحكم ، وهذا كثير جدا ، وهو الذي انتقد أئمة الطريق على هؤلاء ، وصاحوا بهم من كل ناحية ، وبدعوهم وضللوهم به .
قوله " ولا تحمله كثرة نعم الله على هتك أستار محارم الله " كثرة النعم تطغي العبد ، وتحمله على أن يصرفها في وجوهها وغير وجوهها ، وهي تدعو إلى أن يتناول العبد بها ما حل وما لا يحل ، وأكثر المنعم عليهم لا يقتصرون في صرف النعمة على القدر الحلال ، بل يتعداه إلى غيره ، وتسول له نفسه أن معرفته بالله ترد عليه ما انتهبته منهم أيدي الشهوات والمخالفات ، ويقول : العارف لا تضره الذنوب ، كما تضر الجاهل ، وربما يسول له أن ذنوبه خير من طاعات الجهال ، وهذا من أعظم المكر ، والأمر بضد ذلك ، فيحتمل من الجاهل ما لا يحتمل من العارف وإذا عوقب الجاهل ضعفا عوقب العارف ضعفين ، وقد دل على هذا شرع الله وقدره ، ولهذا كانت عقوبة الحر في الحدود مثلي عقوبة العبد ، وقال تعالى في نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - يانساء النبي من يأت منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين فإذا أكملت النعمة على العبد ، فقابلها بالإساءة والعصيان : كانت عقوبته أعظم ، فدرجته أعلى وعقوبته أشد .
وقال أيضا : ليس بعارف من وصف المعرفة عند أبناء الآخرة ، فكيف عند أبناء الدنيا ؟ يريد : أنه ليس من المعرفة وصف المعرفة لغير أهلها ، سواء كانوا عبادا ، أو من أبناء الدنيا .
وقال أبو سعيد : المعرفة تأتي من عين الوجود ، وبذل المجهود ، وهذا كلام حسن ، يشير إلى أن المعرفة ثمرة بذل المجهود في الأعمال ، وتحقق الوجد في [ ص: 322 ] الأحوال ؛ فهي ثمرة عمل الجوارح ، وحال القلب لا ينال بمجرد العلم والبحث ، فمن ليس له عمل ولا حال فلا معرفة له .
وسئل ذو النون عن العارف ؟ فقال : كان هاهنا فذهب .
فسئل الجنيد عما أراد بكلامه هذا ؟ فقال : لا يحصره حال عن حال ، ولا يحجبه منزل عن التنقل في المنازل ، فهو مع كل أهل منزل بمثل الذي هم فيه ، يجد مثل الذي يجدون ، وينطق بمعالمها لينتفعوا .
وقال محمد بن الفضل : المعرفة حياة القلب مع الله .
وسئل أبو سعيد : هل يصل العارف إلى حال يجفو عليه البكاء ؟ فقال : نعم ، إنما البكاء في أوقات سيرهم إلى الله ، فإذا نزلوا بحقائق القرب ، وذاقوا طعم الوصول من بره ؛ زال عنهم ذلك .
وقال بعض السلف : نوم العارف يقظة ، وأنفاسه تسبيح ، ونوم العارف أفضل من صلاة الغافل .
وإنما كان نوم العارف يقظة ؛ لأن قلبه حي ؛ فعيناه تنامان ، وروحه ساجدة تحت العرش بين يدي ربها وفاطرها ، جسده في الفرش ، وقلبه حول العرش ، وإنما كان نومه أفضل من صلاة الغافل ؛ لأن بدن الغافل واقف في الصلاة ، وقلبه يسبح في حشوش الدنيا والأماني ؛ ولذلك كانت يقظته نوما ؛ لأن قلبه موات .
وقيل : مجالسة العارف تدعوك من ست إلى ست : من الشك إلى اليقين ، ومن الرياء إلى الإخلاص ، ومن الغفلة إلى الذكر ، ومن الرغبة في الدنيا إلى الرغبة في الآخرة ، ومن الكبر إلى التواضع ، ومن سوء الطوية إلى النصيحة .


