الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                معلومات الكتاب

                                                                                                                                بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع

                                                                                                                                الكاساني - أبو بكر مسعود بن أحمد الكاساني

                                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                                ( وأما ) الذي يرجع إلى المنذور به فأنواع : .

                                                                                                                                ( منها ) أن يكون متصور الوجود في نفسه شرعا ، فلا يصح النذر بما لا يتصور وجوده شرعا كمن قال : لله - تعالى - علي أن أصوم ليلا أو نهارا أكل فيه ، وكالمرأة إذا قالت : لله علي أن أصوم أيام حيضي ; لأن الليل ليس محل الصوم ، والأكل مناف للصوم حقيقة والحيض مناف له شرعا ; إذ الطهارة عن الحيض والنفاس شرط وجود الصوم الشرعي ولو قالت : لله علي أن أصوم غدا فحاضت في غد ، أو قالت : لله علي أن أصوم يوم يقدم فلان فقدم في يوم حاضت فيه لا شيء عليها عند محمد ، وعند أبي يوسف عليها قضاء ذلك اليوم ، وهي من مسائل الصوم .

                                                                                                                                وعلى هذا يخرج ما إذا قال : لله - تعالى - علي أن أصوم اليوم الذي يقدم فيه فلان ، فقدم في النهار - أنه إن قدم قبل الزوال أو قبل أن يتناول شيئا من المفطرات يلزمه صومه ، وإن قدم بعد الزوال أو بعد ما تناول شيئا من المفطرات لا يلزمه شيء ; لأنه أوجب على نفسه صوم يوم موصوف بأنه يوجد فيه قدوم فلان ولا علم له بهذا اليوم قبل القدوم ولا دليل العلم ، ولا وجوب لهذا الصوم بدون العلم ; أو دليله ; لأن ما ثبت أداؤه على قصد المؤدي في تحصيله لا يجب أداؤه إلا بعد العلم بوجوبه أو دليل العلم ، فلم يجب الصوم ما لم يوجد اليوم الموصوف ، ولا وجود إلا بالقدوم ، فصار الوجوب على هذا التخريج متعلقا بالقدوم ، ووجوب صوم يوم لم تزل فيه الشمس ، ولم يتناول شيئا من المفطرات متصور ، كما لو أنشأ النذر فوجب عليه للحال ، ولا تصور له بعد التناول وبعد الزوال فلا يجب عليه شيء ، بخلاف اليمين بأن قال : والله لأصومن اليوم الذي يقدم فيه فلان فقدم بعد ما أكل ، أو بعد الزوال - حنث في يمينه ، والفرق أن في باب النذر يجب الفعل حقا لله - تعالى - ; لأن الوجوب بإيجاب الله - تعالى - عند مباشرة سبب الوجوب من العبد فصار هذا وسائر العبادات المقصودة على السواء .

                                                                                                                                ( وأما ) في باب اليمين : فالفعل في نفسه غير واجب ، بل الواجب هو الامتناع عن هتك حرمة اسم الله - تعالى عز شأنه - وإنما وجب الفعل لضرورة حصول البر ، وحصول البر أيضا لضرورة الامتناع عن الهتك فوجوبه لا يفتقر إلى العلم ، فكان وجوب تحصيل البر والامتناع ثابتا قبل وجود دليل الوجوب وهو القدوم ، فوجب عليه البر من أول وجود هذا اليوم الذي حلف أن يصومه وإن لم يكن له به علم ، فإذا لم يصم : بأن أكل أو امتنع من النذر حتى زالت الشمس حنث في يمينه لفوات البر والله - عز شأنه - أعلم .

                                                                                                                                ( ومنها ) أن يكون قربة فلا يصح النذر بما ليس بقربة رأسا كالنذر بالمعاصي بأن يقول : لله - عز شأنه - علي أن أشرب الخمر أو أقتل فلانا أو أضربه أو أشتمه ونحو ذلك ، لقوله عليه الصلاة والسلام { لا نذر في معصية الله تعالى } ، وقوله : عليه الصلاة والسلام { من نذر أن يعصي الله - تعالى - فلا يعصه } ، ولأن حكم النذر وجوب المنذور به ، ووجوب فعل المعصية محال وكذا النذر بالمباحات من الأكل والشرب والجماع ونحو ذلك لعدم وصف القربة لاستوائهما فعلا وتركا ، وكذا لو قال : علي طلاق امرأتي ; لأن الطلاق ليس بقربة فلا يلزم بالنذر ، وهل يقع الطلاق به ؟ فيه كلام نذكره إن شاء الله تعالى .

                                                                                                                                ( ومنها ) أن يكون قربة مقصودة ، فلا يصح النذر بعيادة المرضى وتشييع الجنائز والوضوء والاغتسال ودخول المسجد ومس المصحف والأذان وبناء الرباطات والمساجد وغير ذلك وإن كانت قربا ; لأنها ليست بقرب مقصودة ويصح النذر بالصلاة والصوم والحج والعمرة والإحرام بهما والعتق والبدنة والهدي والاعتكاف ونحو ذلك ; لأنها قرب مقصودة [ ص: 83 ] وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام : { من نذر أن يطيع الله - تعالى - فليطعه } ، وقال عليه الصلاة والسلام : { من نذر وسمى فعليه وفاؤه بما سمى } ; إلا أنه خص منه المسمى الذي ليس بقربة أصلا ، والذي ليس بقربة مقصودة فيجب العمل بعمومه فيما وراءه ومن مشايخنا من أصل في هذا أصلا فقال : ما له أصل في الفروض يصح النذر به ولا شك أن ما سوى الاعتكاف من الصلاة والصوم وغيرهما له أصل في الفروض ، والاعتكاف له أصل أيضا في الفروض وهو الوقوف بعرفة ، وما لا أصل له في الفروض لا يصح النذر به كعيادة المرضى وتشييع الجنازة ودخول المسجد ونحوها وعلل بأن النذر إيجاب العبد فيعتبر بإيجاب الله تعالى .

                                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                                الخدمات العلمية