( وأما ) الثاني ، وهو بيان العلة فنقول : الأصل المعلول في هذا الباب بإجماع القائسين الحديث المشهور ، وهو ما روى ، أبو سعيد الخدري رضي الله عنهما عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال { وعبادة بن الصامت } أي : بيعوا الحنطة بالحنطة مثلا بمثل يدا بيد . : الحنطة بالحنطة مثلا بمثل يدا بيد ، والفضل ربا ، والشعير بالشعير مثلا بمثل يدا بيد ، والفضل ربا ، والتمر بالتمر مثلا بمثل يدا بيد ، والفضل ربا ، والملح بالملح مثلا بمثل يدا بيد ، والفضل ربا ، والفضة بالفضة مثلا بمثل يدا بيد ، والفضل ربا ، والذهب بالذهب مثلا بمثل يدا بيد ، والفضل ربا
وروي مثل بمثل بالرفع أي : بيع الحنطة بالحنطة مثل بمثل يد بيد جائز فهذا النص معلول باتفاق القائسين غير أنهم اختلفوا في العلة .
قال أصحابنا في الأشياء الأربعة المنصوص عليها الكيل مع الجنس ، وفي الذهب ، والفضة الوزن مع الجنس فلا تتحقق العلة إلا باجتماع الوصفين ، وهما القدر ، والجنس : علة ربا الفضل هي أحد ، وصفي علة ربا الفضل إما الكيل ، أو الوزن المتفق ، أو الجنس ، وهذا عندنا ، وعند ، وعلة ربا النساء علة ربا الفضل في الأشياء الأربعة الطعم ، وفي الذهب ، والفضة الثمنية في قول ، وفي قول هما غير معلولين ، وعلة ربا النساء ما هو علة ربا الفضل ، وهي الطعم في المطعومات ، والثمنية في الأثمان دون الجنس إذ الأصل عنده حرمة بيع المطعوم بجنسه . الشافعي
( وأما ) التساوي في المعيار الشرعي مع اليد مخلص من الحرمة بطريق الرخصة ، احتج لإثبات هذا الأصل بما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال { الشافعي } هذا الأصل يدل على أن الأصل حرمة بيع المطعوم بجنسه ، وإنما الجواز بعارض التساوي في المعيار الشرعي ; لأنه عليه الصلاة والسلام نهى عن بيع الطعام بالطعام مطلقا ، واستثنى حالة المساواة فيدل على أن الحرمة هي الأصل في : لا تبيعوا الطعام بالطعام إلا سواء بسواء من غير فصل بين القليل والكثير ، وفيه دليل أيضا على جعل الطعم علة ; لأنه أثبت الحكم عقيب اسم مشتق من معنى ، والأصل : أن الحكم إذا ثبت عقيب اسم مشتق من معنى [ ص: 184 ] يصير موضع الاشتقاق علة للحكم المذكور كقوله تعالى - جل ، وعلا - { بيع المطعوم بالمطعوم : والسارق ، والسارقة فاقطعوا أيديهما } ، وقوله - سبحانه وتعالى - : { الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة } والطعام اسم مشتق من الطعم فيدل على كون الطعم علة ، ولأن العلة اسم لوصف مؤثر في الحكم ، ووصف الطعم مؤثر في حرمة بيع المطعوم ، والحكم متى ثبت عقيب وصف مؤثر يحال إليه كما في الزنا ، والسرقة ، ونحو ذلك ، وبيان تأثير الطعم أنه وصف ينبئ عن العزة ، والشرف ; لكونه متعلق البقاء ، وهذا يشعر بعزته وشرفه ، فيجب إظهار عزته وشرفه ، وذلك في تحريم بيع المطعوم بجنسه ، وتعليق جوازه بشرطي التساوي في المعيار الشرعي ، واليد ; لأن في تعلقه بشرطين تضييق طريق إصابته ، وما ضاق طريق إصابته يعز وجوده فيعز إمساكه ، ولا يهون في عين صاحبه فكان الأصل فيه هو الحظر ; ولهذا كان الأصل في الأبضاع الحرمة ، والحظر ، والجواز بشرطي الشهادة ، والولي إظهارا لشرفها لكونها منشأ البشر الذين هم المقصودون في العالم ، وبهم قوامها ، والأبضاع وسيلة إلى وجود الجنس ، والقوت وسيلة إلى بقاء الجنس فكان الأصل فيها الحظر ، والجواز بشرطين ليعز وجوده ، ولا تتيسر إصابته فلا يهون إمساكه فكذا هذا ، وكذا الأصل في بيع الذهب ، والفضة بجنسهما هو الحرمة ; لكونهما أثمان الأشياء فيها وعليها ، فكان قوام الأموال ، والحياة بها فيجب إظهار شرفها في الشرع بما قلنا .
( ولنا ) في إثبات الأصل إشارات النصوص من الكتاب العزيز ، والسنة ، والاستدلال .
( أما ) الكتاب فقوله تعالى { : أوفوا الكيل ولا تكونوا من المخسرين وزنوا بالقسطاس المستقيم ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين } وقال سبحانه وتعالى : { ويا قوم أوفوا المكيال والميزان بالقسط ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين } جعل حرمة الربا بالمكيل ، والموزون مطلقا عن شرط الطعم فدل على أن العلة هي الكيل ، والوزن ، وقال - سبحانه وتعالى - { : ويل للمطففين الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون } ألحق الوعيد الشديد بالتطفيف في الكيل ، والوزن مطلقا من غير فصل بين المطعوم وغيره .
( وأما ) السنة فما روي أن { خيبر أهدى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تمرا جنيبا فقال : أوكل تمر خيبر هكذا ؟ فقال : لا ، ولكني أعطيت صاعين ، وأخذت صاعا فقال عليه الصلاة والسلام : أربيت هلا بعت تمرك بسلعة ، ثم ابتعت بسلعتك تمرا } ؟ وكذلك الميزان وأراد به الموزون بطريق الكناية لمجاورة بينهما مطلقا من غير فصل بين المطعوم ، وغير المطعوم ، وكذا روى عامل ، مالك بن أنس ومحمد بن إسحاق الحنظلي بإسنادهما الحديث المشهور الذي رواه محمد في كتاب البيوع عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال في آخره { } . : وكذلك كل ما يكال ، أو يوزن
( وأما ) الاستدلال فهو : أن الفضل على المعيار الشرعي من الكيل ، والوزن في الجنس إنما كان ربا في المطعومات ، والأثمان من الأشياء الستة المنصوص عليها لكونه فضل مال خال عن العوض يمكن التحرز عنه في عقد المعاوضة ، وقد وجد في الجص ، والحديد ، ونحوهما فورود الشرع ثمة يكون ورودا هنا دلالة ، وبيان ذلك أن البيع لغة ، وشرعا مبادلة المال بالمال ، وهذا يقتضي التساوي في البدلين على وجه لا يخلو كل جزء من البدل من هذا الجانب عن البدل من ذلك الجانب ; لأن هذا هو حقيقة المبادلة ; ولهذا لا يملك الأب ، والوصي بيع مال اليتيم بغبن فاحش ، ولا يصح من المريض إلا من الثلث ، والقفيز من الحنطة مثل القفيز من الحنطة صورة ، ومعنى ، وكذلك الدينار مع الدينار .
( أما ) الصورة فلأنهما متماثلان في القدر ، وأما معنى فإن المجانسة في الأموال عبارة عن تقارب المالية فكان القفيز مثلا للقفيز ، والدينار مثلا للدينار ; ولهذا لو يلزمه قفيز مثله ، ولا يلزمه قيمته ، وإذا كان القفيز من الحنطة مثلا للقفيز من الحنطة كان القفيز الزائد فضل مال خال عن العوض يمكن التحرز عنه في عقد المعاوضة فكان ربا ، وهذا المعنى لا يخص المطعومات ، والأثمان بل يوجد في كل مكيل بجنسه ، وموزون بمثله فالشرع الوارد هناك يكون ، واردا ههنا دلالة . أتلف على آخر قفيزا من حنطة
( وأما ) قوله : الأصل حرمة بيع المطعوم بجنسه فممنوع ، ولا حجة له في الحديث ; لأنه عليه الصلاة والسلام ما اقتصر على النهي عن بيع الطعام بالطعام ليجعل الحظر فيه أصلا ، بل قرن به الاستثناء فقال عليه الصلاة والسلام : إلا سواء بسواء فلا يدل على كون الحرمة فيه أصلا ، وقوله : جعل الطعم علة دعوى ممنوعة أيضا ، والاسم [ ص: 185 ] المشتق من معنى إنما يجعل علة للحكم المذكور عقيبه عندنا إذا كان له أثر كالزنا ، والسرقة ، ونحوهما فلم قلتم بأن للطعم أثرا ؟ وكونه متعلق البقاء لا يكون أثره في الإطلاق أولى من الحظر فإن الأصل فيه هو التوسيع دون التضييق على ما عرف ، والله - سبحانه وتعالى - أعلم .