الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                معلومات الكتاب

                                                                                                                                بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع

                                                                                                                                الكاساني - أبو بكر مسعود بن أحمد الكاساني

                                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                                فأما إذا هلك بعضه فإن كان قبل القبض ، وهلك بآفة سماوية ينظر إن كان النقصان نقصان قدر بأن كان مكيلا أو موزونا أو معدودا ينفسخ العقد بقدر الهالك ، وتسقط حصته من الثمن ; لأن كل قدر من المقدرات معقود عليه فيقابله شيء من الثمن ، وهلاك كل المعقود عليه يوجب انفساخ البيع في الكل ، وسقوط كل الثمن ، فهلاك بعضه يوجب انفساخ البيع ، وسقوط الثمن بقدره والمشتري بالخيار في الباقي إن شاء أخذه بحصته من الثمن ، وإن شاء ترك ; لأن الصفقة قد تفرقت عليه ، وإن كان النقصان نقصان وصف ، وهو كل ما يدخل في البيع من غير تسمية كالشجر ، والبناء في الأرض ، وأطراف الحيوان ، والجودة في المكيل والموزون لا ينفسخ البيع [ ص: 240 ] أصلا ، ولا يسقط عن المشتري شيء من الثمن ; لأن الأوصاف لا حصة لها من الثمن إلا إذا ورد عليها القبض أو الجناية ; لأنها تصير مقصودة بالقبض والجناية فالمشتري بالخيار إن شاء أخذه بجميع الثمن ، وإن شاء ترك لتعيب المبيع قبل القبض ، وإن هلك بفعل المبيع بأن جرح نفسه لا ينفسخ البيع ، ولا يسقط عن المشتري شيء من الثمن ; لأن جنايته على نفسه هدر ، فصار كما لو هلك بعضه بآفة سماوية ، وهلاك بعضه نقصان الوصف ، والأوصاف لا تقابل بالثمن فلا يسقط شيء من الثمن ، ولكن المشتري بالخيار إن شاء أخذه بجميع الثمن ، وإن شاء ترك لتغير المبيع .

                                                                                                                                ولو كان المشترى حيوانين سوى بني آدم فقتل أحدهما صاحبه قبل القبض تسقط حصته من الثمن ، والمشتري بالخيار إن شاء أخذ الباقي بحصته من الثمن ، وإن شاء ترك ; لأن فعل العجماء جبار فكأنه اشترى حيوانين ، ثم مات أحدهما قبل القبض حتف أنفهولو كان المشترى عبدين فقتل أحدهما صاحبه قبل القبض ، أو كانت جارية فولدت قبل القبض فكبر الولد ثم قتل أحدهما صاحبه قبل القبض فالمشتري بالخيار إن شاء فسخ البيع في الباقي ، وبطلت الجناية ; لأن الفسخ إعادة إلى ملك البائع فتبين أن القتل حصل في ملك البائع فبطل ، وإن شاء أخذ القاتل منهما بجميع الثمن ، ولا يسقط عن المشتري شيء من الثمن ; لأنه لو أخذه بحصته من الثمن لصار آخذا بجميع الثمن في الانتهاء فيخير في الابتداء قصرا للمسافة إن شاء أخذ الحي منهما بجميع الثمن ، وإن شاء ترك وبيان ذلك أنه لو أخذ القاتل منهما بحصته من الثمن لا ينفسخ البيع في المقتول .

                                                                                                                                وانفساخ البيع ارتفاعه من الأصل وعوده إلى ملك البائع فتبين أن عبد المشتري قتل عبد البائع فيخاطب بالدفع أو بالفداء ، وأيهما فعل قام مقام المقتول فيحيا المقتول معنى فيأخذه ببقية الثمن ، فصار في أخذ الباقي منهما بحصته من الثمن في الحال آخذا بجميع الثمن في المآل فخيرناه في الابتداء للأخذ بجميع الثمن والفسخ ، هذا وإن هلك بفعل البائع يبطل البيع بقدره ، ويسقط عن المشتري حصة الهالك من الثمن ، وهو قدر النقصان اعتبارا للبعض بالكل ، سواء كان النقصان نقصان قيمة أو نقصان وصف ; لأن الأوصاف لها حصة من الثمن عند ورود الجناية عليها ; لأنها تصير أصلا بالفعل فتقابل بالثمن ، والمشتري بالخيار في الباقي إن شاء أخذه بحصته من الثمن ، وإن شاء ترك لتفرق الصفقة عليه ، ولو اختار المشتري الأخذ فلم يقبضه حتى مات من تلك الجناية أو من غيرها مات على البائع ، ويسقط الثمن عن المشتري ; لأن المبيع إنما يدخل في ضمان المشتري بالقبض ، ولم يوجد .

                                                                                                                                فإن قبضه المشتري فمات من جناية البائع أو غيرها سقطت عن المشتري حصة جناية البائع ، ولزمه ما بقي من الثمن أما إذا مات من الجناية فلأن قبض الباقي وجد من المشتري فتقرر قبضه فتقرر عليه ثمنه ، وكذا إذا مات من جناية البائع ; لأن المشتري قبض الباقي حقيقة ، وقبض المبيع يوجب تقرر الثمن في الأصل إلا إذا وجد من البائع ما ينقصه فيصير مستردا ، والسراية ليست فعله حقيقة ، وإنما هي صنع الله - تعالى - يعني مصنوعة فبقي المقبوض على حكم قبض المشتري فتقرر عليه ثمنه ، ولأن قبض المشتري بمنزلة إنشاء العقد فيه ; لأن للقبض شبها بالعقد ، وإنشاء الشراء قاطع للسراية كما لو اشتراه منه بعد جنايته ، وقبضه ثم سرت إلى النفس ، ومات ، فكذلك القبض ، والله - عز وجل - أعلم .

                                                                                                                                وإذا هلك بفعل المشتري ; لا يبطل البيع ، ولا يسقط عنه شيء من الثمن ; لأنه صار قابضا للكل بإتلاف البعض أو لا يتمكن من إتلاف البعض إلا بإثبات اليد على الكل ، وهو تفسير القبض أو صار قابضا قدر المتلف بالإتلاف ، والباقي بالتعييب ، فتقرر عليه كل الثمن ولو مات في يد البائع بعد جناية المشتري ينظر إن مات من تلك الجناية مات على المشتري ، وعليه الثمن ; لأنه لما مات من جنايته تبين أن فعله السابق وقع إتلافا للكل فتقرر عليه كل الثمن سواء منعه البائع بعد جناية المشتري أو لم يمنعه ; لأن منع البائع بعد وجود الإتلاف من المشتري هدر ، وإن مات من غير الجناية ، فإن كان البائع لم يمنعه مات من مال المشتري أيضا ، وعليه كل الثمن لما ذكرنا أنه بالجناية صار قابضا لكل المبيع ، ولم يوجد ما ينقض قبضه فبقي حكم ذلك القبض ، وإن كان منعه لزم المشتري حصة ما استهلك ، وسقط عنه ثمن ما بقي ; لأن البائع لما منع فقد نقض قبض المشتري في قدر القائم ، فصار مستردا إياه .

                                                                                                                                فإذا هلك فقد هلك في ضمانه فيهلك عليه ، ولو جنى عليه البائع ثم جنى عليه المشتري سقط عن المشتري حصة جناية [ ص: 241 ] البائع لما قلنا ، ولزمه ثمن ما بقي ; لأنه صار قابضا للباقي بجنايته فتقرر عليه ثمنه ; لأن جنايته دليل الرضا بتعييب البائع ، فإن ابتدأ المشتري بالجناية ثم جنى البائع قبل قبض الثمن فإن برئ العبد من الجنايتين فالمشتري بالخيار إن شاء أخذه ، وسقطت عنه حصة جناية البائع من الثمن ، وإن شاء ترك ; لأن المشتري صار قابضا بالجناية ، لكن الجناية فيه قبض بغير إذن البائع ، والثمن غير منقود ، فلما جنى عليه البائع فقد استرد ذلك القدر ، فحصلت جنايته تعييبا للمبيع ، وحدوث العيب في المبيع قبل القبض يوجب الخيار فإن شاء فسخ ، وإن شاء ترك ، وعليه ثلاثة أرباع الثمن ، وسقطت عنه جناية البائع من الثمن ، وهو الربع ; لأن النصف هلك بجناية المشتري فتقرر عليه الثمن ، وربع منه قائم يأخذه بثمنه أيضا ، والربع هلك بجناية البائع قبل القبض فيسقط عنه ثمنه .

                                                                                                                                وإن مات العبد في يد البائع بعد الجنايتين بأن كان المشتري قطع يده ، ثم قطع البائع رجله من خلاف ثم مات في يد البائع من الجنايتين فعلى المشتري خمسة أثمان الثمن ، وسقط عنه ثلاثة أثمان الثمن ; لأن المشتري لما قطع يده فقد تقرر عليه نصف الثمن ; لأنه صار قابضا بالقطع ، ولما قطع البائع رجله فقد استرد نصف القائم من العبد ، وهو الربع ، فبقي هناك ربع قائم من العبد ، فإذا سرت الجناية ; فقد هلك ذلك الربع من سراية الجنايتين ، فينقسم ذلك الربع بينهما نصفين ، فانكسر الحساب بالأرباع ، فيجعل كل سهم أربعة ، فيصير ثمانية ، فلذلك جعلنا الحساب من ثمانية فهلك بجناية المشتري النصف ، وهو أربعة وبسراية جنايته سهم فيتقرر عليهم ثمنه فذلك خمسة أثمان الثمن ، وهلك بجناية البائع سهمان وبسراية جنايته سهم فذلك ثلاثة أثمان الثمن يسقط عنه ; لأن هلاك هذا القدر يسقط عنه ، والله - عز وجل - أعلم هذا إذا جنى المشتري أولا ثم جنى البائع فبرأت الجراحة أو سرت .

                                                                                                                                ( فأما ) إذا جنى البائع أولا ثم المشتري فإن برئ العبد فلا خيار للمشتري ههنا لما ذكرنا أن إقدامه على الجناية بعد جناية البائع دليل الرضا بتعيينه ، فبطل خياره ، ويلزمه ثمن ما بقي ; لأنه صار قابضا لما بقي ، وإن مات العبد من الجنايتين فالجواب ههنا على القلب من الجواب في المسألة المتقدمة ، وهو أن على المشتري ثلاثة أثمان ، وسقط عنه خمسة أثمان الثمن ، فحكم جناية المشتري ههنا كحكم جناية البائع هناك لما ذكرنا فافهم .

                                                                                                                                ولو كان الثمن مقبوضا ، والعبد في يد البائع فجنى عليه البائع يسقط عن المشتري حصته من الثمن أيضا لما ذكرنا فإن كان المشتري جنى عليه أولا ثم جنى البائع يلزم البائع من القيمة ما يلزم الأجنبي ; لأن المشتري صار قابضا بالجناية ، ولا يملك البائع نقض القبض ، والاسترداد ههنا ; لأن الثمن مقبوض فصارت جنايته وجناية الأجنبي سواء ، ولو كان البائع جنى أولا ، ثم جنى المشتري فما هلك بجناية البائع سقط حصته من الثمن ، وما هلك بسراية جنايته فعليه قيمته ; لأن ما هلك بجنايته بعد جناية المشتري تجب قيمته على ما ذكرنا فكذا ما هلك بسراية جنايته ، والله - عز وجل - أعلم وإن هلك بفعل أجنبي فعليه ضمانه ، لا شك فيه ، والمشتري بالخيار إن شاء فسخ البيع ، واتبع البائع الجاني بضمان ما جنى ، وإن شاء اختار البيع ، واتبع الجاني بالضمان ، وعليه جميع الثمن ، وأيهما اختار ، فالحكم فيه بعد ذلك على ما ذكرنا في إتلاف الأجنبي كل المبيع ، والله - عز وجل - أعلم هذا إذا هلك بعض المبيع قبل القبض .

                                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                                الخدمات العلمية