الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                معلومات الكتاب

                                                                                                                                بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع

                                                                                                                                الكاساني - أبو بكر مسعود بن أحمد الكاساني

                                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                                ويتصل بما ذكرنا الزيادة في المبيع والثمن والحط عن الثمن والكلام فيهما في ثلاثة مواضع : أحدهما في أصل الجواز أنهما جائزان أم لا ، والثاني في شرائط الجواز ، والثالث في كيفية الجواز ( أما ) الأول فقد اختلف العلماء فيه قال أصحابنا الثلاثة : الزيادة في المبيع والثمن جائزة مبيعا وثمنا كأن العقد ورد على المزيد عليه والزيادة جميعا من الابتداء ، وقال زفر : لا تجوز الزيادة مبيعا وثمنا ولكن تكون هبة مبتدأة فإن قبضها صارت ملكا له وإلا تبطل وأظهر أقوال الشافعي رحمه الله مثل قولنا إن كان في مجلس العقد وإن كان بعد الافتراق فقوله مثل قول زفر وصورة المسألة إذا اشترى رجل عبدا بألف درهم ، وقال المشتري زدتك خمسمائة أخرى ثمنا وقبل البائع ، أو قال البائع : زدتك هذا العبد الآخر ، أو قال هذا الثوب مبيعا وقبل المشتري جازت الزيادة كان الثمن في الأصل ألفا وخمسمائة ، والمبيع في الأصل عبدان ، أو عبد ، وثوب سواء كان ذلك قبل القبض أو بعده .

                                                                                                                                وكذلك إذا اشترى عبدين بألف درهم ثم زاد المشتري في الثمن مائة درهم جازت الزيادة كان الثمن في الأصل ألفا ومائة تنقسم الزيادة على قيمتهما ، وكذلك لو كان لعبد ثمن مسمى أو كان لكل واحد منهما ثمن مسمى وزاد المشتري في الثمن مائة مطلقا انقسمت الزيادة على قدر القيمتين ، وعلى هذا الخلاف الزيادة في القيمتين من الوارثين بعد موت العاقدين لأن الوارث خلف المورث في ملكه القائم بعد موته ألا ترى : أنه يرد بالعيب ويرد عليه كان الوارث حيا قائما فزاد ، وعلى هذا الخلاف الزيادة من الوكيل لأنه يتصرف بتولية مستفادة من قبل الموكل .

                                                                                                                                وأما الزيادة من الأجنبي فلا شك أن عندهما : لا تجوز وأما عندنا : فإن زاد بأمر العاقد جاز لأنه وكيله في الزيادة ، وإن زاد بغير أمره وقفت الزيادة على إجازته إن أجاز جازت ، وإن رد بطلت إلا أن يضمن الزائد الزيادة فيجوز ، ولا يتوقف على إجازة العاقد ، وإن لم يحصل للأجنبي بمقابلة الزيادة شيء .

                                                                                                                                وعلى هذا قالوا فيمن اشترى عبدا بألف درهم على أن خمسمائة سوى الألف على رجل ضمنه وقبل فالعبد للمشتري ، والخمسمائة على الثالث من غير أن يستحق شيئا بالخمسمائة ، وذكر في الجامع الصغير إذا قال الرجل بع هذه الدار من فلان بألف درهم على أني ضامن لك من الثمن خمسمائة أن البيع على هذا الشرط صحيح ، والخمسمائة على الأجنبي ولو قال : على أني ضامن لك خمسمائة ولم يقل من الثمن كان باطلا لا يلزمه شيء ، وعلى هذا الخلاف الزيادة في المهر المسمى في النكاح .

                                                                                                                                وأما الزيادة في المنكوحة بالمهر الأول فلا تجوز بالإجماع ، وعلى هذا الخلاف الزيادة في رأس مال السلم وأما الزيادة في المسلم فيه فلا تجوز بالإجماع ، وعلى هذا الخلاف الزيادة في الرهن وأما الزيادة في الدين فلا تجوز عند أبي حنيفة ومحمد استحسانا ، وعند أبي يوسف جائز قياسا والفرق لأبي حنيفة ومحمد بين الزيادة في الرهن وبين الزيادة في الدين نذكره في ( كتاب الرهن ) .

                                                                                                                                وعلى هذا الخلاف حط بعض الثمن أنه جائز عندنا ، ويلتحق بأصل العقد والثمن هذا القدر من الابتداء حتى إن المبيع إذا كان دارا فالشفيع يأخذها بالشفعة بما بقي بعد الحط ، وعندهما هو هبة مبتدأة إلا أن قيام الدين عليه أو كونه قابلا لاستئناف العقد ليس بشرط لصحة الحط بلا خلاف بين أصحابنا وفي الزيادة خلاف نذكره إن شاء الله تعالى ( وجه ) قول زفر والشافعي رحمهما الله أن الثمن والمبيع من الأسماء الإضافية المتقابلة ، فلا يتصور مبيع بلا ثمن ، ولا ثمن بلا مبيع ، فالقول بجواز المبيع ، والثمن مبيعا وثمنا قول بوجود المبيع ولا ثمن والثمن ولا مبيع ; لأن المبيع اسم لمال يقابل ملك المشتري وهو الثمن والثمن اسم لمال يقابل ملك البائع وهو المبيع .

                                                                                                                                فالزيادة من البائع لو صحت مبيعا لا تقابل ملك المشتري بل تقابل ملك نفسه لأنه ملك جميع الثمن ، ولو صحت من المشتري ثمنا لا تقابل ملك البائع بل تقابل ملك نفسه ; لأنه ملك جميع المبيع فلا تكون الزيادة مبيعا وثمنا ; لانعدام حقيقة المبيع ، والثمن فيجعل منه هبة مبتدأة ، ولأن كل المبيع لما صار مقابلا بكل الثمن ، وكل الثمن مقابل بكل المبيع فالزيادة لو صحت مبيعا ، وثمنا لخلت عما يقابله ، فكانت فضل مال خال عن العوض في عقد المعاوضة ، وهذا تفسير الربا .

                                                                                                                                ( ولنا ) [ ص: 259 ] في الزيادة في المهر قوله تعالى : { فآتوهن أجورهن فريضة ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة } أي من بعد تلك الفريضة ; لأن النكرة إذا أعيدت معرفة يراد بالثاني غير الأول أمر الله سبحانه وتعالى بإيتاء المهور المسماة في النكاح وأزال الجناح في الزيادة على المسمى ; لأن ما يتراضاه الزوجان بعد التسمية هو الزيادة في المهر فيدل على جواز الزيادة وروي عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال للوازن : { زن وأرجح فإنا معاشر الأنبياء هكذا نزن } وهذا زيادة في الثمن ، وقد ندب عليه الصلاة والسلام إليها بالقول ، والفعل وأقل أحوال المندوب إليه الجواز .

                                                                                                                                وروي عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال : { المسلمون عند شروطهم } فظاهره يقتضي لزوم الوفاء بكل شرط إلا ما خص بدليل ; لأنه يقتضي أن يكون كل مسلم عند شرطه .

                                                                                                                                وإنما يكون كذلك إذا لزمه الوفاء به ، وإنما يلزمه إذا صحت الزيادة مبيعا ، وثمنا فأما إذا كانت هبة مبتدأة فلا يلزمه الوفاء ; لأن العاقدين أوقعا الزيادة مبيعا وثمنا كما لو تبايعا ابتداء ، وهذا لأن الأصل أن تصرف الإنسان يقع على الوجه الذي أوقعه إذا كان أهلا للتصرف ، والمحل قابلا ، وله ولاية عليه ، وقد وجد وقولهما أن الثمن اسم لمال يقابل ملك البائع ، والمبيع اسم لمال يقابل ملك المشتري قلنا : هذا ممنوع بل الثمن اسم لما أزال المشتري ملكه ، ويده عنه بمقابلة مال أزال البائع ملكه ويده عنه ، فيملك كل واحد منهما المال الذي كان ملك صاحبه بعد زوال ملكه عنه شرعا على ما عرف ثم نقول : ما ذكراه حد المبيع ، والثمن بطريق الحقيقة ، والزيادة في المبيع ، والثمن مبيع ، وثمن من حيث الصورة ، والتسمية ربح بطريق الحقيقة ; لأن الربح حقيقة ما يملك بعقد المعاوضة لا بمقابلة ما هو مال حقيقة بل من حيث الصورة ، والتسمية والزيادة ههنا كذلك فكانت ربحا حقيقة فكان من شرطها أن لا تكون مقابلة بملك البائع إلا تسمية ، وشرط الشيء كيف يمنع صحته على أنه أمكن تحقيق معنى المقابلة ، والزيادة لأن الموجب الأصلي في البيع هو قيمة المبيع .

                                                                                                                                وهو ماليته ; لأن البيع معاوضة بطريق المعادلة عرفا ، وحقيقة ، والمقابلة عند التساوي في المالية ; ولهذا لو فسدت التسمية تجب القيمة عندنا ، والثمن تقدير لمالية المبيع باتفاق العاقدين ، وإذا زاد في المبيع أو الثمن علم أيهما أخطأ في التقدير ، وغلط فيه ، وما هو الموجب الأصلي قد ثبت بالبيع ، فإذا بينا التقدير كان ذلك بيانا للموجب الأصلي إلا أنه ابتداء إيجاب فكان عوضا عن ملك العين لا عن ملك نفسه ، وهذا الكلام في المهر أغلب ; لأن الموجب الأصلي فيه هو مهر المثل على ما عرفت على أنه إن كان لا يمكن تحقيق معنى المقابلة مع بقاء العقد على حاله يمكن تحقيقه مع تغيير العقد من حيث الوصف بأن يجعل الألف بعد الزيادة بمقابلة نصف العبد ليخلو النصف عن الثمن ، فتجعل الألف الزيادة بمقابلة النصف الخالي .

                                                                                                                                وهذا وإن كان تغييرا ، ولكنهما قصدا تصحيح التصرف ولا صحة إلا بالتغيير ، ولهما ولاية التغيير ألا ترى : أن لهما ولاية الفسخ وأنه فوق التغيير لأن الفسخ رفع الأصل ، والوصف ، والتغيير تبديل الوصف مع بقاء أصل العقد فلما ثبت لهما ولاية الفسخ فولاية التغيير أولى ، ولهما حاجة إلى التغيير لدفع الغبن ، أو لمقصود آخر فمتى اتفقا على الزيادة ، وقصدا الصحة ولا صحة إلا بهذا الشرط يثبت هذا الشرط مقتضى تصرفهما تصحيحا له كما في قول الرجل لغيره : أعتق عبدك عني بألف درهم .

                                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                                الخدمات العلمية