الحق الثامن : التخفيف وترك التكلف والتكليف
وذلك بأن لا يكلف أخاه ما يشق عليه بل يروح سره من مهماته وحاجاته ويرفهه على أن يحمله شيئا من أعبائه ، فلا يكلفه القيام بحقوقه ، بل لا يقصد بمحبته إلا الله تعالى استعانة به على دينه واستئناسا بلقائه وتقربا إلى الله تعالى بالقيام بحقوقه وتحمل مؤنته .
قال بعضهم : " من اقتضى من إخوانه ما لا يقتضونه منه فقد ظلمهم ، ومن اقتضى منهم مثل ما يقتضونه فقد أتبعهم ، ومن لم يقتض فهو المتفضل عليهم " ، وتمام التخفيف بطي بساط التكليف حتى لا يستحيي منه فيما لا يستحيي منه نفسه .
وقال " علي " رضي الله عنه : " شر الأصدقاء من تكلف لك ومن تكلف لك ، ومن أحوجك إلى مداراة وألجأك إلى اعتذار" .
وقال " الفضل " : " إنما تقاطع الناس بالتكلف ، يزور أحدهم أخاه فيتكلف له فيقطعه ذلك عنه " .
وكان " " رضي الله عنهما يقول : " أثقل إخواني علي من يتكلف وأتحفظ منه ، وأخفهم على قلبي من أكون معه كما أكون وحدي " . جعفر بن محمد الصادق
ومن التخفيف وترك التكلف : أن لا يعترض في نوافل العبادات ، كان طائفة من الصوفية يصطحبون على أن أحدهم إن أكل النهار كله لم يقل له صاحبه : صم ، وإن صام الدهر كله لم يقل له : أفطر ، وإن نام الليل كله لم يقل له : قم ، وإن صلى الليل كله لم يقل له : نم ، وتستوي حالاته عنده بلا مزيد ولا نقصان .
وقد قيل : " من سقطت كلفته دامت ألفته ، ومن خفت مؤنته دامت مودته " .
وقال بعضهم : " إذا عمل الرجل في بيت أخيه أربع خصال فقد تم أنسه به : إذا أكل عنده ودخل الخلاء وصلى ونام " ، فذكر ذلك لبعض المشايخ فقال : " بقيت خامسة وهو أن يحضر مع الأهل في بيت أخيه " لأن البيت يتخذ للاستخفاء في هذه الأمور الخمس ، وإلا فالمساجد أروح لصلاة المتعبدين ، فإذا فعل هذه الخمس فقد تم الإخاء وارتفعت الحشمة وتأكد الانبساط .
وقول العرب في تسليمهم يشير إلى ذلك إذ يقول أحدهم [ ص: 139 ] لصاحبه : " مرحبا أهلا وسهلا " أي لك عندنا مرحب وهو السعة في القلب والمكان ، ولك عندنا أهل تأنس بهم بلا وحشة لك منا ، ولك عندنا سهولة في ذلك كله أي لا يشتد علينا شيء مما تريد .
ولا يتم التخفيف وترك التكلف إلا بأن يرى نفسه دون إخوانه ويحسن الظن بهم ويسيء الظن بنفسه ، ولا خير في صحبة من لا يرى لك مثل ما ترى له ، فهذه أقل الدرجات وهو النظر بعين المساواة والكمال في رؤية الفضل للأخ ، ومهما رأى الفضل لنفسه فقد احتقر أخاه وهذا في عموم المسلمين مذموم ، قال - صلى الله عليه وسلم - : " " . بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم
ومن تتمة الانبساط وترك التكلف أن يشاور إخوانه في كل ما يقصده ويقبل إشارتهم فقد قال تعالى : ( وشاورهم في الأمر ) [ آل عمران : 159 ] فهذا جامع حقوق الصحبة ، ولا يتم ذلك إلا بأن تنزل نفسك منزلة الخادم لهم فتقيد بحقوقهم جميع جوارحك .
أما البصر : فبأن تنظر إليهم نظر مودة يعرفونها منك وتنظر إلى محاسنهم وتتعامى عن عيوبهم ، ولا تصرف بصرك عنهم في وقت إقبالهم عليك وكلامهم معك ، روي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يعطي كل من جلس إليه نصيبا من وجهه لا يظن جليسه إلا أنه أكرم الناس عليه ، وكان عليه السلام أكثر الناس تبسما وضحكا في وجوه أصحابه وتعجبا مما يحدثونه .
وأما السمع : فبأن تسمع كلامهم متلذذا بسماعه ومصدقا به ومظهرا للاستبشار به ، ولا تقطع حديثهم عليهم بمرادة ولا منازعة ومداخلة واعتراض ، فإن أرهقك عارض اعتذرت إليهم .
وأما اللسان : فقد ذكرنا حقوقه ، ومن ذلك أن لا يرفع صوته عليهم ، ولا يخاطبهم إلا بما يفقهون .
وأما اليدان : فأن لا يقبضهما عن معاونتهم في كل ما يتعاطى باليد .
وأما بالرجلان : فبأن لا يتقدمهم إلا بقدر ما يقدمونه ولا يقرب منهم إلا بقدر ما يقربونه ، ويقوم لهم إذا أقبلوا ولا يقعد إلا بقعودهم ، ويقعد متواضعا حيث يقعد .