بيان تمييز : علامات حسن الخلق
اعلم أن كل إنسان جاهل بعيوب نفسه ، فإذا جاهد نفسه أدنى مجاهدة حتى ترك فواحش المعاصي ، ربما يظن بنفسه أنه قد هذب نفسه ، وحسن خلقه ، واستغنى عن المجاهدة ، فلا بد من إيضاح علامة حسن الخلق ، فإن حسن الخلق هو الإيمان ، وسوء الخلق هو النفاق ، وقد ذكر الله تعالى صفات المؤمنين والمنافقين في كتابه ، وهي بجملتها ثمرة حسن الخلق وسوء الخلق ، فلنورد جملة من ذلك لتعلم آية حسن الخلق ، قال الله تعالى : ( قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون والذين هم عن اللغو معرضون والذين هم للزكاة فاعلون والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون والذين هم على صلواتهم يحافظون أولئك هم الوارثون الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون ) [ المؤمنون : 1 - 11 ] وقال عز وجل : ( التائبون العابدون الحامدون السائحون الراكعون الساجدون الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر والحافظون لحدود الله وبشر المؤمنين ) [ ص: 183 ] [ التوبة : 112 ] وقال عز وجل : ( إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون الذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون أولئك هم المؤمنون حقا لهم درجات عند ربهم ومغفرة ورزق كريم ) [ الأنفال : 2 - 4 ] وقال تعالى : ( وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما ) [ الفرقان : 63 ] إلى آخر السورة ، فمن أشكل عليه حاله فليعرض نفسه على هذه الآيات ، فوجود جميع هذه الصفات علامة حسن الخلق ، وفقد جميعها علامة سوء الخلق ، ووجود بعضها دون بعض يدل على البعض دون البعض ، فليشتغل بتحصيل ما فقده وحفظ ما وجده . وقد وصف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المؤمن بصفات كثيرة ، وأشار بجميعها إلى محاسن الأخلاق فقال : " " وقال عليه السلام : " المؤمن يحب لأخيه ما يحب لنفسه " وقال - صلى الله عليه وسلم - : " من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه " وقال : " من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره " . وذكر أن صفات المؤمنين هي حسن الخلق ، فقال - صلى الله عليه وسلم - : " من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت " وقال : " أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم أخلاقا لا يحل لمؤمن أن يشير إلى أخيه بنظرة تؤذيه " وقال عليه السلام : " " وقال - صلى الله عليه وسلم - : " لا يحل لمسلم أن يروع مسلما " . إنما يتجالس المتجالسان بأمانة الله عز وجل ، فلا يحل لأحدهما أن يفشي على أخيه ما يكرهه
وأولى ما يمتحن به حسن الخلق : الصبر على الأذى ، واحتمال الجفا ، فقد روي أنس ، فأدركه أعرابي ، فجذبه جذبا شديدا ، وكان عليه برد غليظ الحاشية - قال " أنس " رضي الله عنه : " حتى نظرت إلى عنق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد أثرت فيه حاشية البرد من شدة جذبه " - فقال : " يا محمد هب لي من مال الله الذي عندك " ، فالتفت إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وضحك ، ثم أمر بإعطائه " ، ولما أكثرت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يوما يمشي ومعه قريش إيذاءه قال : " " . اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون
حكي أن " " قيل له : ممن تعلمت الحلم ؟ فقال : " من الأحنف بن قيس قيس بن عاصم ، قيل له : " وما بلغ حلمه " ؟ قال : " بينما هو جالس في داره إذ أتته جارية له بسفود عليه شواء فسقط من يدها " فوقع على ابن له صغير فمات ، فدهشت الجارية ، فقال لها : " لا روع عليك ، أنت حرة لوجه الله تعالى " .
وروي أن عليا كرم الله وجهه دعا غلاما فلم يجبه ، فدعاه ثانيا وثالثا ، فلم يجبه ، فقام إليه فرآه مضطجعا ، فقال : " أما تسمع يا غلام ؟ " قال : " بلى " ، قال : " فما حملك على ترك إجابتي " ؟ قال : " أمنت عقوبتك فتكاسلت " ، قال : " امض فأنت حر لوجه الله تعالى " .
[ ص: 184 ] وقالت امرأة " "رحمه الله : " يا مرائي " ، فقال : " يا هذه وجدت اسمي الذي أضله لمالك بن دينار أهل البصرة " .
فهذه نفوس قد ذللت بالرياضة ، فاعتدلت أخلاقها ، ونقيت من الغش والغل والحقد بواطنها ، فأثمرت الرضا بكل ما قدره الله تعالى ، وهو منتهى حسن الخلق . فمن لم يصادف من نفسه هذه العلامات فلا ينبغي أن يغتر بنفسه فيظن بها حسن الخلق ، بل ينبغي أن يشتغل بالرياضة والمجاهدة إلى أن يبلغ درجة حسن الخلق ، فإنها درجة رفيعة لا ينالها إلا المقربون والصديقون .