: غرور أرباب الأموال
والمغترون منهم فرق : ففرقة منهم يحرصون على بناء المساجد وما يظهر للناس ليتخلد ذكرهم أو يذيع صيتهم وهم يظنون أنهم قد استحقوا المغفرة بذلك ، وقد يكون بناؤها من جهات محظورة تعرضوا لسخط الله في كسبها ، وكان الواجب ردها إلى ملاكها إما بأعيانها وإما رد بدلها عند العجز ، وقد يكون الأهم التفرقة على المساكين وهم لا يفعلون ذلك خيفة أن لا يظهر ذلك للناس فيكون غرضهم في البناء الرياء وجلب الثناء ، مع أن صرف المال إلى من في جواره أو بلده من فقراء وأيتام أهم وأفضل وأولى من الصرف إلى المساجد وزينتها ، فما خف عليهم الصرف إلى المساجد إلا ليظهر ذلك بين الناس . وهناك محظور آخر ، وهو أنه قد يصرف المال إلى زخرفة المسجد وتزيينه بالنقوش المنهي عنها لشغلها قلوب المصلين ، والمقصود من الصلاة الخشوع وحضور القلب وذلك يفسد قلوب المصلين ; فوبال ذلك كله يرجع إليه ، وهو مع ذلك يغتر به ، ويرى أنه من الخيرات مع أنه تعرض لما لا يرضي الله تعالى .
وفرقة ينفقون الأموال في الصدقات على المساكين ويطلبون به المحافل الجامعة ، ومن الفقراء من عادته الشكر وإفشاء المعروف ، ويكرهون التصدق في السر ، ويرون إخفاء الفقير لما يأخذه منهم جناية عليهم وكفرانا ، وربما يحرصون على إنفاق المال في الحج فيحجون مرة بعد أخرى ، وربما تركوا جيرانهم جياعا ، ولذلك قال " " : " في آخر الزمان يكثر الحاج بلا سبب ، يهون عليهم السفر ، ويبسط لهم في الرزق ، ويرجعون محرومين مسلوبين ، يهوي بأحدهم بعيره بين الرمال والقفار وجاره مأسور إلى جنبه لا يواسيه " وقال " ابن مسعود " : "إن رجلا جاء يودع " أبو نصر التمار " وقال : " قد عزمت على الحج فتأمرني بشيء " ؟ فقال له : " كم أعددت للنفقة " ؟ قال : " ألفي درهم " ، قال " بشر بن الحارث بشر " : " فأي شيء تبتغي [ ص: 266 ] لحجتك تزهدا أو اشتياقا إلى البيت أو ابتغاء مرضاة الله " ؟ قال : " ابتغاء مرضاة الله " قال : " فإن أصبت مرضاة الله تعالى وأنت في منزلتك وتنفق ألفي درهم وتكون على يقين من مرضاة الله تعالى أتفعل ذلك " ؟ قال : " نعم " ، قال : اذهب فأعطها عشرة أنفس : مديونا يقضي دينه ، وفقيرا يرم شعثه ، ومعيلا يحيي عياله ، ومربي يتيم يفرحه ، وإن قوي قلبك تعطيها واحدا فافعل ، فإن إدخالك السرور على قلب مسلم وإغاثة اللهفان وكشف الضر وإعانة الضعيف أفضل من مائة حجة بعد حجة الإسلام ، قم فأخرجها كما أمرناك وإلا فقل لنا ما في قلبك " فقال : " يا أبا نصر سفري أقوى في قلبي " ، فتبسم " بشر " - رحمه الله تعالى - وأقبل عليه وقال له : " المال إذا جمع من وسخ التجارات والشبهات اقتضت النفس أن تقضي به وطرا فأظهرت الأعمال الصالحات وقد آلى الله على نفسه أن لا يقبل إلا عمل المتقين " .
وفرقة من أرباب الأموال اشتغلوا بها يحفظون الأموال ويمسكونها بحكم البخل ، ثم يشتغلون بالعبادات البدنية التي لا تحتاج فيها إلى نفقة كصيام النهار وقيام الليل وختم القرآن ، وهم مغرورون ; لأن البخل المهلك قد استولى على بواطنهم فهو يحتاج إلى قمعه بإخراج المال ، فقد اشتغل بطلب فضائل ، وهو مستغن عنها ، ومثاله مثال من دخل في ثوبه حية وقد أشرف على الهلاك ، وهو مشغول بطبخ دواء يسكن به الصفراء ، ومن قتلته الحية متى يحتاج إلى دواء ؟ ولذلك قيل " لبشر " : " إن فلانا الغني كثير الصوم والصلاة " ، فقال : " المسكين ترك حاله ودخل في حال غيره ، وإنما حال هذا إطعام الطعام للجياع والإنفاق على المساكين ، فهذا أفضل له من تجويعه نفسه ومن صلاته لنفسه مع جمعه للدنيا ومنعه للفقراء " .
وفرقة غلبهم البخل فلا تسمح نفوسهم إلا بأداء الزكاة فقط ، ثم إنهم يخرجون من المال الخبيث الرديء الذي يرغبون عنه ، ويطلبون من الفقراء من يخدمهم ويتردد في حاجاتهم أو من يحتاجون إليه في المستقبل للاستسخار في خدمة ، أو من لهم على الجملة غرض ، أو يسلمون إلى من يعينه واحد من الأكابر ممن يستظهر بحشمه لينال بذلك عنده منزلة فيقوم بحاجاته ، وكل ذلك مفسدات للنية ومحبطات للعمل ، وصاحبه مغرور ، ويظن أنه مطيع لله تعالى ، وهو فاجر إذ طلب بعبادة الله عوضا من غيره . وغرور أصحاب الأموال لا يحصى وإنما ذكرنا هذا القدر للتنبيه على أجناس الغرور .
وفرقة أخرى من عوام أرباب الأموال اغتروا بحضور مجالس الذكر واعتقدوا أن ذلك يغنيهم ويكفيهم واتخذوا ذلك عادة ، ويظنون أن لهم على مجرد سماع الوعظ دون العمل والاتعاظ أجرا ، وهم مغرورون ; لأن فضل مجلس الذكر لكونه مرغبا في الخير ، فإن لم يهيج الرغبة فلا خير فيه ، والرغبة محمودة لأنها تبعث على العمل ، فإن ضعفت عن الحمل على العمل فلا خير فيها ، وما يراد لغيره فإذا قصر عن الأداء إلى ذلك الغير فلا قيمة له . وربما يغتر بما يسمعه من الواعظ وتدخله رقة كرقة النساء فيبكي ولا عزم ، وربما يسمع كلاما مخوفا فلا يزيد على أن يصفق بيديه ويقول : يا سلام سلم ، أو نعوذ بالله أو سبحان الله ، ويظن أنه قد أتى [ ص: 267 ] بالخير كله ، وهو مغرور ، وإنما مثاله مثال المريض الذي يحضر مجالس الأطباء فيسمع ما يجري ، أو الجائع الذي يحضر عنده من يصف له الأطعمة اللذيذة الشهية ثم ينصرف ، وذلك لا يغني عنه من مرضه وجوعه شيئا ، فكذلك سماع وصف الطاعات دون العمل بها لا يغني من الله شيئا ، فكل وعظ لم يغير منك صفة تغييرا يغير أفعالك حتى تقبل على الله تعالى إقبالا قويا أو ضعيفا وتعرض عن الدنيا فذلك الوعظ زيادة حجة عليك ، فإذا رأيته وسيلة لك كنت مغرورا .
فإن قلت : ما ذكرته من مداخل الغرور أمر لا يمكن الاحتراز منه إذ لا يقوى أحد على الحذر من خفايا هذه الآفات ، قلت : الإنسان إذا فترت همته في شيء أظهر اليأس منه واستعظم الأمر واستوعر الطريق ، وإذا صح منه الهوى اهتدى إلى الحيل واستنبط بدقيق النظر خفايا الطريق في الوصول إلى الغرض ، حتى إن الإنسان إذا أراد أن يستنزل الطير المحلق في جو السماء مع بعده منه استنزله ، وإذا أراد أن يستسخر السباع والفيلة وعظيم الحيوانات استسخرها ، إلى غير ذلك من دقائق حيل الآدمي ، كل ذلك ; لأن همه أمر دنياه فلو أهمه أمر آخرته فليس عليه إلا شغل واحد وهو تقويم قلبه ، ولما تخاذل عن تقويم قلبه ظنه محالا وليس ذلك بمحال ; لأنه شيء لم يعجز عنه السلف الصالحون ومن اتبعهم بإحسان ، فلا يعجز عنه أيضا من صدقت إرادته وقويت همته ، بل لا يحتاج إلى عشر تعب الخلق في استنباط حيل الدنيا ونظم أسبابها .
فإن قلت : قد قربت الأمر فيه مع أنك أكثرت في ذكر مداخل الغرور فاعلم أنه ينجو منه بثلاثة أمور : بالعقل والعلم والمعرفة ، فهذه ثلاثة أمور لا بد منها : فبم ينجو العبد من الغرور ؟
أما العقل فأعني به الفطرة الغريزية والنور الأصلي الذي به يدرك الإنسان حقائق الأشياء ; لأن أساس السعادات كلها العقل والكياسة .
وأما المعرفة فأن يعرف نفسه وربه ويعرف الدنيا والآخرة ، فإذا عرف ذلك ثار من قلبه بمعرفة الله حب الله وبمعرفة الآخرة شدة الرغبة فيها ، وبمعرفة الدنيا الرغبة عنها ، ويصير أهم أموره ما يوصله إلى الله تعالى وينفعه في الآخرة ، وإذا غلبت هذه الإرادة على قلبه صحت نيته في الأمور كلها واندفع عنه كل غرور منشؤه تجاذب الأغراض والنزوع إلى الدنيا والجاه والمال ، وما دامت الدنيا أحب إليه من الآخرة ، وهوى نفسه أحب إليه من رضاء الله تعالى فلا يمكنه الخلاص من الغرور ، فإذا غلب حب الله على قلبه بمعرفته بالله وبنفسه الصادرة عن كمال عقله فيحتاج إلى المعنى الثالث ، وهو العلم ، أعني العلم بما يقربه من الله وما يبعده عنه ، فيعرف من العبادات شروطها فيراعيها وآفاتها فيتقيها ، ومن العادات أسرار المعايش وما هو مضطر إليه فيأخذه بأدب الشرع ، وما هو مستغن عنه فيعرض عنه ، ومن المهلكات يعلم جميع العقبات المانعة في طريق الله ، فإن المانع من الله الصفات المذمومة في الخلق ، فيعلم [ ص: 268 ] المذموم ويعلم طريق علاجه ، ويعرف من المنجيات الصفات المحمودة التي لا بد وأن توضع خلفا عن المذمومة بعد محوها .
فإذا أحاط بجميع ذلك أمكنه الحذر من الأنواع التي أشرنا إليها من الغرور ، وأصل ذلك كله أن يغلب حب الله على القلب ، ويسقط حب الدنيا منه حتى تقوى به الإرادة ، وتصح به النية ، ولا يحصل ذلك إلا بالمعرفة التي ذكرناها . نسأل الله العون والتوفيق وحسن الخاتمة آمين .