تحريم ، وآداب المضطر إليه السؤال من غير ضرورة
اعلم أنه قد وردت مناه كثيرة في السؤال وتشديدات ، قال - صلى الله عليه وسلم - : " ، ومن سأل وله ما يغنيه جاء يوم القيامة ووجهه عظم يتقعقع وليس عليه لحم " وفي لفظ آخر : "كانت مسألته خدوشا وكدوحا في وجهه من سأل عن غنى فإنما يستكثر من جمر جهنم " وهذه الألفاظ صريحة في التحريم والتشديد . وكان - صلى الله عليه وسلم - يأمر كثيرا بالتعفف عن السؤال .
وسمع " عمر " - رضي الله عنه - سائلا يسأل بعد المغرب فقال لواحد من قومه : "عش الرجل " فعشاه ، ثم سمعه ثانيا يسأل فقال : "ألم أقل لك عش الرجل " قال : "قد عشيته " فنظر " عمر " فإذا تحت يده مخلاة مملوءة خبزا فقال : "لست سائلا ولكنك تاجر " ثم أخذ المخلاة ونثرها بين يدي إبل الصدقة ، وضربه بالدرة وقال : "لا تعد " ولولا سؤاله كان حراما لما ضربه ولا أخذ مخلاته ، وإنما استجاز ذلك - رضي الله عنه - لكونه لاح له فيه أنه رآه مستغنيا عن السؤال ، وعلم أن من أعطاه شيئا فإنما أعطاه على اعتقاد أنه محتاج وقد كان كاذبا ، فلم يدخل في ملكه بأخذه من التلبيس ، وعسر تمييز ذلك ورده إلى أصحابه إذ لا يعرف أصحابه بأعيانهم ، فبقي مالا لا مالك له ، فوجب صرفه إلى المصالح ، وإبل الصدقة وعلفها من المصالح .
نعم يباح السؤال بضرورة أو حاجة مهمة قريبة من الضرورة ، فالضرورة ، كسؤال الجائع عند خوفه على نفسه موتا أو مرضا ، وهو مباح ما دام السائل عاجزا عن الكسب فإن وسؤال العاري وبدنه مكشوف ليس معه ما يواريه إلا إذا استغرق طلب العلم أوقاته ، وأما المستغني فهو الذي القادر على الكسب وهو بطال ليس له السؤال ، فسؤاله حرام قطعا ، وأما المحتاج حاجة مهمة فكالمريض الذي يحتاج إلى دواء ، وكمن له جبة لا قميص تحتها في الشتاء وهو يتأذى بالبرد ، وكمن يسأل الكراء لفرس . ولا ينبغي أن يأخذ ما يعلم أن باعثه الحياء فإنه حرام محض ، وما يشك فيه فليستفت قلبه فيه ، وليترك حزاز القلب فإنه الإثم ، وليدع ما يريبه إلى ما لا يريبه ، وإدراك ذلك بقرائن الأحوال سهل على من قويت فطنته وضعف حرصه وشهوته ، فإن قوي الحرص وضعفت الفطنة [ ص: 297 ] تراءى له ما يوافق غرضه فلا يتفطن للقرائن الدالة على الكراهة ، وبهذه الدقائق يطلع على سر قوله - صلى الله عليه وسلم - : " يطلب الشيء وعنده مثله وأمثاله " وقد ورد في وعيد من إن أطيب ما أكل الرجل من كسبه قوله - صلى الله عليه وسلم - : " يسأل وهو غني " وقد ورد في حد الغنى المحرم للسؤال آثار مختلفة متنوعة ، يمكن تنزيلها على اختلاف أحوال المحتاجين ، إذ الحاجة لا تقبل الضبط ، فأمرها منوط باجتهاد العبد ونظره لنفسه بينه وبين الله تعالى ، فيستفتي فيه قلبه ، ويعمل به إن كان سالكا طريق الآخرة . نسأله - تعالى - حسن التوفيق بلطفه . من سأل عن ظهر غنى فإنما يسأل جمرا فليستقل منه أو ليستكثر