وظائف المزكي :
[ الوظيفة الأولى ] .
[ الثانية ] : إظهارا للرغبة في الامتثال بإيصال السرور إلى [ ص: 52 ] قلوب الفقراء ، ومبادرة لعوائق الزمان أن يعوق عن الخيرات ، وعلما بأن في التأخير آفات مع ما يتعرض العبد له من العصيان لو أخر عن وقت الوجوب . ومهما ظهرت داعية الخير من الباطن فينبغي أن يغتنم فإن ذلك لمة الملك وما أسرع تقلب المؤمن و ( التعجيل عن وقت الوجوب الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء ) [ البقرة : 268 ] والمنكر وله لمة عقيب لمة الملك فليغتنم الفرصة فيه .
[ الثالثة ] : فإن ذلك أبعد عن الرياء والسمعة . قال تعالى : ( الإسرار وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم ) [ البقرة : 271 ] وقد بالغ في فضل الإخفاء جماعة حتى اجتهدوا أن لا يعرف القابض المعطي ، فكان بعضهم يوصل إلى يد الفقير على يد غيره بحيث لا يعرف المعطي ، وكان يستكتم المتوسط شأنه ويوصيه بأن لا يفشيه ، كل ذلك توصلا إلى رضاء الرب واحترازا من الرياء والسمعة ، ومهما كانت الشهرة مقصودة له حبط عمله .
[ الرابعة ] : أن ويحرس سره من داعية الرياء ، فقد قال تعالى : ( يظهر حيث يعلم أن في إظهاره ترغيبا للناس في الاقتداء إن تبدوا الصدقات فنعما هي ) [ البقرة : 271 ] وذلك حيث يقتضي الحال الإبداء إما للاقتداء وإما لأن السائل إنما سأل على ملأ من الناس فلا ينبغي أن يترك التصدق خيفة من الرياء في الإظهار ، بل ينبغي أن يتصدق ويحفظ سره عن الرياء بقدر الإمكان . وهذا لأن في الإظهار محذورا ثالثا سوى المن والرياء وهو هتك ستر الفقير ، فإنه ربما يتأذى بأن يرى في صورة المحتاج ، فمن أظهر السؤال فهو الذي هتك ستر نفسه فلا يحذر هذا المعنى في إظهاره ، وقد قال الله تعالى : ( وأنفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية ) [ الرعد : 22 ، وفاطر : 29 ] ندب إلى العلانية أيضا لما فيها من فائدة الترغيب . فليكن العبد دقيق التأمل في وزن هذه الفائدة بالمحذور الذي فيها ، ومن عرف الفوائد والغوائل ولم ينظر بعين الشهوة اتضح له الأولى والأليق بكل حال .
[ الخامسة ] : أن ، قال الله تعالى : ( لا يفسد صدقته بالمن والأذى لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى ) [ البقرة : 264 ] والمن أن يذكرها ويتحدث بها أو يستخدمه بالعطاء أو يتكبر عليه لأجل عطائه ، والأذى أن يظهرها أو يعيره بالفقر أو ينتهره أو يوبخه بالمسألة . وأصل المن أن يرى نفسه محسنا إلى الفقير ومنعما عليه ، وحقه أن يرى الفقير محسنا إليه بقبول حق الله عز وجل منه الذي هو طهرته ونجاته من النار ، وأنه لو لم يقبله لبقي مرتهنا به ، فحقه أن يتقلد منة الفقير ، ومهما عرف المعاني الثلاثة التي ذكرها في الفصل قبل لم ير نفسه محسنا إلا إلى نفسه إما ببذل ماله إظهارا لحب الله تعالى أو تطهيرا لنفسه عن رذيلة البخل أو شكرا على نعمة المال طلبا للمزيد .
وأما الأذى فمنبعه رؤيته أنه خير من الفقير ، وهذا جهل لأنه لو عرف فضل الفقر على الغنى وخطر الأغنياء لما استحقر الفقير ، بل تمنى درجته ، كيف وقد جعله الله تعالى متجرة له حتى يخلصه من عهدته بقبوله منه .
[ السادسة ] : أن يستصغر العطية فإنه إن استعظمها أعجب بها ، والعجب من المهلكات [ ص: 53 ] وهو محبط للأعمال قيل : لا يتم المعروف إلا بثلاث : تصغيره وتعجيله وستره .
[ السابعة ] : أن ، فإن الله تعالى طيب ولا يتقبل إلا طيبا ، وإذا لم يكن المخرج من جيد المال فهو من سوء الأدب ، إذ قد يمسك الجيد لنفسه أو لعبده أو أهله فيكون قد آثر على الله عز وجل غيره ، ولو فعل هذا بضيفه وقدم إليه أردأ طعام في بيته لأوغر بذلك صدره ، وقد قال تعالى : ( ينتقي من ماله أجوده وأحبه إليه وأجله وأطيبه ياأيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه ) [ البقرة : 267 ] أي لا تأخذه إلا مع كراهية وحياء وهو معنى الإغماض .
[ الثامنة ] : ولا يكتفي بأن يكون من عموم الأصناف الثمانية فإن في عمومهم خصوص صفات فليراع خصوصها وهي ستة : أن يطلب بصدقته من تزكو به الصدقة
الأولى : أن يطلب الأتقياء لأنهم يستعينون بالمال على التقوى فيكون شريكا لهم في طاعتهم بإعانتهم إياهم .
الثانية : أن يكون من أهل العلم خاصة فإن ذلك إعانة له على العلم ، والعلم أشرف العبادات مهما صحت فيه النية ، وكان " " يخصص بمعروفه أهل العلم فقيل له : لو عممت ، فقال : إني لا أعرف بعد مقام النبوة أفضل من مقام العلماء فإذا اشتغل قلب أحدهم بحاجته لم يتفرغ للعلم ولم يقبل على التعلم فتفريغهم للعلم أفضل . ابن المبارك
الثالثة : أن يكون صادقا في تقواه وعلمه بالتوحيد ، وتوحيده أنه إذا أخذ العطاء حمد الله عز وجل وشكره ورأى أن النعمة منه وأن الواسطة مسخر بتسخير الله إذا سلط عليه دواعي الفعل ويسر له الأسباب فأعطى ، ومن لم يصف باطنه عن رؤية الوسائط إلا من حيث أنهم وسائط فكأنه لم ينفك عن الشرك الخفي ، فليتق الله سبحانه في تصفية توحيده عن كدورات الشرك وشوائبه .
الرابعة : أن يكون مخفيا حاجته لا يكثر البث والشكوى ، أو يكون من أهل المروءة ممن ذهبت نعمته وبقيت عادته فهو يتعيش في جلبات التحمل ، قال الله تعالى : ( يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف تعرفهم بسيماهم لا يسألون الناس إلحافا ) [ البقرة : 273 ] أي لا يلحون في السؤال لأنهم أغنياء بيقينهم أعزة بصبرهم ، وهذا ينبغي أن يطلب بالفحص عن أهل الدين في [ ص: 54 ] كل محلة وبالكشف عن بواطن أحوال أهل الخير والتجمل ، فثواب صرف المعروف إليهم أضعاف ما يصرف إلى المجاهدين بالسؤال .
الخامسة : أن يكون معيلا أو محبوسا بمرض أو بسبب من الأسباب فيوجد فيه معنى قوله عز وجل : ( للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله ) [ البقرة : 273 ] أي حبسوا في طريق الآخرة بعيلة أو ضيق معيشة أو إصلاح قلب ( لا يستطيعون ضربا في الأرض ) [ البقرة : 273 ] لأنهم مقصوصو الجناح مقيدو الأطراف . فبهذه الأسباب كان " عمر " - رضي الله عنه - يعطي أهل البيت القطيع من الغنم العشرة فما فوقها ، وكان صلى الله عليه وسلم يعطي العطاء على مقدار العيلة . وسئل " عمر " - رضي الله عنه - عن جهد البلاء فقال : كثرة العيال وقلة المال .
السادسة : أن يكون من الأقارب وذوي الأرحام فتكون صدقة وصلة رحم ، وفي صلة الرحم من الثواب ما لا يحصى قال " علي " - رضي الله عنه - : " لأن أصل أخا من إخواني بدرهم أحب إلي من أن أتصدق بعشرين درهما " . والأصدقاء وإخوان الخير أيضا يقدمون على المعارف كما يتقدم الأقارب على الأجانب ، فليراع هذه الدقائق فهذه الصفات المطلوبة ، وفي كل صفة درجات فينبغي أن يطلب أعلاها ، فإن وجد من جمع جملة من هذه الصفات فهي الذخيرة الكبرى والغنيمة العظمى .