[ ص: 117 ]
المسألة الثانية : لقائل أن يقول : ظاهر الآية مشعر بأن نفي الجناح عن المطلق مشروط بعدم المسيس ، وليس كذلك ؛ فإنه لا جناح عليه أيضا بعد المسيس.
وجوابه من وجوه :
الأول : أن الآية دالة على إباحة
nindex.php?page=treesubj&link=11735الطلاق قبل المسيس مطلقا، وهذا الإطلاق غير ثابت بعد المسيس؛ فإنه لا يحل
nindex.php?page=treesubj&link=11750الطلاق بعد المسيس في زمان الحيض، ولا في الطهر الذي جامعها فيه، فلما كان المذكور في الآية حل الطلاق على الإطلاق، وحل الطلاق على الإطلاق لا يثبت إلا بشرط عدم المسيس، صح ظاهر اللفظ.
الوجه الثاني : في الجواب قال بعضهم : إن (ما) في قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=236ما لم تمسوهن ) بمعنى (الذي) والتقدير : لا جناح عليكم إن طلقتم النساء اللاتي لم تمسوهن، إلا أن (ما) اسم جامد لا ينصرف، ولا يبين فيه الإعراب ولا العدد، وعلى هذا التقدير لا يكون لفظ (ما) شرطا، فزال السؤال.
الوجه الثالث : في الجواب ما يدور حوله
القفال رحمه الله، وحاصله يرجع إلى ما أقوله، وهو أن المراد من الجناح في هذه الآية لزوم المهر، فتقدير الآية : لا مهر عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة، بمعنى : لا يجب المهر إلا بأحد هذين الأمرين، فإذا فقدا جميعا لم يجب المهر، وهذا كلام ظاهر ، إلا أنا نحتاج إلى بيان أن قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=236لا جناح ) معناه لا مهر، فنقول : إطلاق لفظ الجناح على المهر محتمل، والدليل دل عليه ، فوجب المصير إليه، وأما بيان الاحتمال فهو أن أصل الجناح في اللغة هو الثقل، يقال : أجنحت السفينة إذا مالت لثقلها ، والذنب يسمى جناحا لما فيه من الثقل، قال تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=29&ayano=13وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم ) [العنكبوت : 13] إذا ثبت أن الجناح هو الثقل، ولزوم أداء المال ثقل فكان جناحا، فثبت أن اللفظ محتمل له، وإنما قلنا : إن الدليل دل على أنه هو المراد لوجهين :
الأول : أنه تعالى قال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=236لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة ) نفى الجناح محدودا إلى غاية وهي إما المسيس أو الفرض، والتقدير : فوجب أن يثبت ذلك الجناح عند حصول أحد هذين الأمرين ، ثم إن الجناح الذي يثبت عند أحد هذين الأمرين هو لزوم المهر، فوجب القطع بأن الجناح المنفي في أول الآية هو لزوم المهر .
الثاني : أن تطليق النساء قبل المسيس على قسمين :
أحدهما : الذي يكون قبل المسيس وقبل تقدير المهر، وهو المذكور في هذه الآية .
والثاني : الذي يكون قبل المسيس وبعد تقدير المهر ، وهو المذكور في الآية التي بعد هذه الآية ، وهي قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=237وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة ) [البقرة : 237] ثم إنه في هذا القسم أوجب نصف المفروض ، وهذا القسم كالمقابل لذلك القسم ، فيلزم أن يكون الجناح المنفي هناك هو المثبت هاهنا، فلما كان المثبت هاهنا هو لزوم المهر وجب أن يقال : الجناح المنفي هناك هو لزوم المهر ، والله أعلم.
واعلم أنا قد ذكرنا في أول تفسير هذه الآية أن أقسام المطلقات أربعة، وهذه الآية تكون مشتملة على بيان حكم ثلاثة أقسام منها؛ لأنه لما صار تقدير الآية : لا مهر إلا عند المسيس أو عند التقدير، عرف منه أن
nindex.php?page=treesubj&link=11168التي لا تكون ممسوسة ولا مفروضا لها لا يجب لها المهر، وعرف أن
nindex.php?page=treesubj&link=11168_11167_11174التي تكون ممسوسة ولا تكون مفروضا لها ، والتي تكون مفروضا لها ولا تكون ممسوسة يجب لكل واحدة منهما المهر، فتكون هذه الآية مشتملة على بيان حكم هذه الأقسام الثلاثة .
[ ص: 118 ]
وأما القسم الرابع، وهي التي تكون ممسوسة ومفروضا لها، فبيان حكمه مذكور في الآية المتقدمة، وعلى هذا التقدير تكون هذه الآيات مشتملة على بيان حكم هذه الأقسام الأربعة بالتمام ، وهذا من لطائف الكلمات ، والحمد لله على ذلك.
[ ص: 117 ]
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : ظَاهِرُ الْآيَةِ مُشْعِرٌ بِأَنَّ نَفْيَ الْجَنَاحِ عَنِ الْمُطَلِّقِ مَشْرُوطٌ بِعَدَمِ الْمَسِيسِ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ ؛ فَإِنَّهُ لَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَيْضًا بَعْدَ الْمَسِيسِ.
وَجَوَابُهُ مِنْ وُجُوهٍ :
الْأَوَّلُ : أَنَّ الْآيَةَ دَالَّةٌ عَلَى إِبَاحَةِ
nindex.php?page=treesubj&link=11735الطَّلَاقِ قَبْلَ الْمَسِيسِ مُطْلَقًا، وَهَذَا الْإِطْلَاقُ غَيْرُ ثَابِتٍ بَعْدَ الْمَسِيسِ؛ فَإِنَّهُ لَا يَحِلُّ
nindex.php?page=treesubj&link=11750الطَّلَاقُ بَعْدَ الْمَسِيسِ فِي زَمَانِ الْحَيْضِ، وَلَا فِي الطُّهْرِ الَّذِي جَامَعَهَا فِيهِ، فَلَمَّا كَانَ الْمَذْكُورُ فِي الْآيَةِ حِلَّ الطَّلَاقِ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَحِلُّ الطَّلَاقِ عَلَى الْإِطْلَاقِ لَا يَثْبُتُ إِلَّا بِشَرْطِ عَدَمِ الْمَسِيسِ، صَحَّ ظَاهِرُ اللَّفْظِ.
الْوَجْهُ الثَّانِي : فِي الْجَوَابِ قَالَ بَعْضُهُمْ : إِنَّ (مَا) فِي قَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=236مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ ) بِمَعْنَى (الَّذِي) وَالتَّقْدِيرُ : لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ اللَّاتِي لَمْ تَمَسُّوهُنَّ، إِلَّا أَنَّ (مَا) اسْمٌ جَامِدٌ لَا يَنْصَرِفُ، وَلَا يَبِينُ فِيهِ الْإِعْرَابُ وَلَا الْعَدَدُ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ لَا يَكُونُ لَفْظُ (مَا) شَرْطًا، فَزَالَ السُّؤَالُ.
الْوَجْهُ الثَّالِثُ : فِي الْجَوَابِ مَا يَدُورُ حَوْلَهُ
الْقَفَّالُ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَحَاصِلُهُ يَرْجِعُ إِلَى مَا أَقُولُهُ، وَهُوَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْجُنَاحِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ لُزُومُ الْمَهْرِ، فَتَقْدِيرُ الْآيَةِ : لَا مَهْرَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً، بِمَعْنَى : لَا يَجِبُ الْمَهْرُ إِلَّا بِأَحَدِ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ، فَإِذَا فُقِدَا جَمِيعًا لَمْ يَجِبِ الْمَهْرُ، وَهَذَا كَلَامٌ ظَاهِرٌ ، إِلَّا أَنَّا نَحْتَاجُ إِلَى بَيَانِ أَنَّ قَوْلَهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=236لَا جُنَاحَ ) مَعْنَاهُ لَا مَهْرَ، فَنَقُولُ : إِطْلَاقُ لَفْظِ الْجُنَاحِ عَلَى الْمَهْرِ مُحْتَمَلٌ، وَالدَّلِيلُ دَلَّ عَلَيْهِ ، فَوَجَبَ الْمَصِيرُ إِلَيْهِ، وَأَمَّا بَيَانُ الِاحْتِمَالِ فَهُوَ أَنَّ أَصْلَ الْجَنَاحِ فِي اللُّغَةِ هُوَ الثِّقَلُ، يُقَالُ : أَجْنَحَتِ السَّفِينَةُ إِذَا مَالَتْ لِثِقَلِهَا ، وَالذَّنْبُ يُسَمَّى جَنَاحًا لِمَا فِيهِ مِنَ الثِّقَلِ، قَالَ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=29&ayano=13وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ ) [الْعَنْكَبُوتِ : 13] إِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْجُنَاحَ هُوَ الثِّقَلُ، وَلُزُومُ أَدَاءِ الْمَالِ ثِقَلٌ فَكَانَ جُنَاحًا، فَثَبَتَ أَنَّ اللَّفْظَ مُحْتَمِلٌ لَهُ، وَإِنَّمَا قُلْنَا : إِنَّ الدَّلِيلَ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ هُوَ الْمُرَادُ لِوَجْهَيْنِ :
الْأَوَّلُ : أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=236لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً ) نَفَى الْجُنَاحَ مَحْدُودًا إِلَى غَايَةٍ وَهِيَ إِمَّا الْمَسِيسُ أَوِ الْفَرْضُ، وَالتَّقْدِيرُ : فَوَجَبَ أَنْ يَثْبُتَ ذَلِكَ الْجُنَاحُ عِنْدَ حُصُولِ أَحَدِ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ ، ثُمَّ إِنَّ الْجُنَاحَ الَّذِي يَثْبُتُ عِنْدَ أَحَدِ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ هُوَ لُزُومُ الْمَهْرِ، فَوَجَبَ الْقَطْعُ بِأَنَّ الْجُنَاحَ الْمَنْفِيَّ فِي أَوَّلِ الْآيَةِ هُوَ لُزُومُ الْمَهْرِ .
الثَّانِي : أَنَّ تَطْلِيقَ النِّسَاءِ قَبْلَ الْمَسِيسِ عَلَى قِسْمَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : الَّذِي يَكُونُ قَبْلَ الْمَسِيسِ وَقَبْلَ تَقْدِيرِ الْمَهْرِ، وَهُوَ الْمَذْكُورُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ .
وَالثَّانِي : الَّذِي يَكُونُ قَبْلَ الْمَسِيسِ وَبَعْدَ تَقْدِيرِ الْمَهْرِ ، وَهُوَ الْمَذْكُورُ فِي الْآيَةِ الَّتِي بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ ، وَهِيَ قَوْلُهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=237وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً ) [الْبَقَرَةِ : 237] ثُمَّ إِنَّهُ فِي هَذَا الْقِسْمِ أَوْجَبَ نِصْفَ الْمَفْرُوضِ ، وَهَذَا الْقِسْمُ كَالْمُقَابِلِ لِذَلِكَ الْقِسْمِ ، فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ الْجُنَاحُ الْمَنْفِيُّ هُنَاكَ هُوَ الْمُثْبَتَ هَاهُنَا، فَلَمَّا كَانَ الْمُثْبَتُ هَاهُنَا هُوَ لُزُومَ الْمَهْرِ وَجَبَ أَنْ يُقَالَ : الْجُنَاحُ الْمَنْفِيُّ هُنَاكَ هُوَ لُزُومُ الْمَهْرِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَاعْلَمْ أَنَّا قَدْ ذَكَرْنَا فِي أَوَّلِ تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ أَقْسَامَ الْمُطَلَّقَاتِ أَرْبَعَةٌ، وَهَذِهِ الْآيَةُ تَكُونُ مُشْتَمِلَةً عَلَى بَيَانِ حُكْمِ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ مِنْهَا؛ لِأَنَّهُ لَمَّا صَارَ تَقْدِيرُ الْآيَةِ : لَا مَهْرَ إِلَّا عِنْدَ الْمَسِيسِ أَوْ عِنْدَ التَّقْدِيرِ، عُرِفَ مِنْهُ أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=11168الَّتِي لَا تَكُونُ مَمْسُوسَةً وَلَا مَفْرُوضًا لَهَا لَا يَجِبُ لَهَا الْمَهْرُ، وَعُرِفَ أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=11168_11167_11174الَّتِي تَكُونُ مَمْسُوسَةً وَلَا تَكُونُ مَفْرُوضًا لَهَا ، وَالَّتِي تَكُونُ مَفْرُوضًا لَهَا وَلَا تَكُونُ مَمْسُوسَةً يَجِبُ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا الْمَهْرُ، فَتَكُونُ هَذِهِ الْآيَةُ مُشْتَمِلَةً عَلَى بَيَانِ حُكْمِ هَذِهِ الْأَقْسَامِ الثَّلَاثَةِ .
[ ص: 118 ]
وَأَمَّا الْقِسْمُ الرَّابِعُ، وَهِيَ الَّتِي تَكُونُ مَمْسُوسَةً وَمَفْرُوضًا لَهَا، فَبَيَانُ حُكْمِهِ مَذْكُورٌ فِي الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ تَكُونُ هَذِهِ الْآيَاتُ مُشْتَمِلَةً عَلَى بَيَانِ حُكْمِ هَذِهِ الْأَقْسَامِ الْأَرْبَعَةِ بِالتَّمَامِ ، وَهَذَا مِنْ لَطَائِفِ الْكَلِمَاتِ ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى ذَلِكَ.