الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            [ ص: 7 ] وإذا عرفت هذه الأسرار ، فلنرجع إلى ظاهر التفسير .

                                                                                                                                                                                                                                            أما قوله : ( الله لا إله إلا هو ) ففيه مسألتان :

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الأولى : ( الله ) رفع بالابتداء ، وما بعده خبره .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثانية : قال بعضهم : الإله هو المعبود . وهو خطأ لوجهين :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : أنه تعالى كان إلها في الأزل ، وما كان معبودا .

                                                                                                                                                                                                                                            والثاني : أنه تعالى أثبت معبودا سواه في القرآن بقوله : ( إنكم وما تعبدون من دون الله ) [الأنبياء : 98] بل الإله هو القادر على ما إذا فعله كان مستحقا للعبادة .

                                                                                                                                                                                                                                            أما قوله : ( الحي ) ففيه مسائل :

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الأولى : الحي أصله حيي كقوله : حذر وطمع فأدغمت الياء في الياء عند اجتماعهما ، وقال ابن الأنباري : أصله الحيو ، فلما اجتمعت الياء والواو ثم كان السابق ساكنا فجعلتا ياء مشددة .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثانية : قال المتكلمون : الحي كل ذات يصح أن يعلم ويقدر ، واختلفوا في أن هذا المفهوم صفة موجودة أم لا ، فقال بعضهم : إنه عبارة عن كون الشيء بحيث لا يمتنع أنه يعلم ويقدر ، وعدم الامتناع لا يكون صفة موجودة ، وقال المحققون : ولما كانت الحياة عبارة عن عدم الامتناع ، وقد ثبت أن الامتناع أمر عدمي ، إذ لو كان وصفا موجودا لكان الموصوف به موجودا ، فيكون ممتنع الوجود موجودا وهو محال ، وثبت أن الامتناع عدم ، وثبت أن الحياة عدم هذا الامتناع ، وثبت أن عدم العدم وجود ، لزم أن يكون المفهوم من الحياة صفة موجودة وهو المطلوب .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثالثة : لقائل أن يقول : لما كان معنى الحي هو أنه الذي يصح أن يعلم ويقدر ، وهذا القدر حاصل لجميع الحيوانات ، فكيف يحسن أن يمدح الله نفسه بصفة يشاركه فيها أخس الحيوانات؟

                                                                                                                                                                                                                                            والذي عندي في هذا الباب أن الحي في أصل اللغة ليس عبارة عن هذه الصحة ، بل كل شيء كان كاملا في جنسه ، فإنه يسمى حيا ، ألا ترى أن عمارة الأرض الخربة تسمى : إحياء الموات ، وقال تعالى : ( فانظر إلى آثار رحمة الله كيف يحيي الأرض بعد موتها ) [الروم : 50] وقال : ( إلى بلد ميت فأحيينا به الأرض ) [فاطر : 9] والصفة المسماة في عرف المتكلمين ، إنما سميت بالحياة ؛ لأن كمال حال الجسم أن يكون موصوفا بتلك الصفة فلا جرم سميت تلك الصفة حياة ؛ وكمال حال الأشجار أن تكون مورقة خضرة ، فلا جرم سميت هذه الحالة حياة ، وكمال الأرض أن تكون معمورة فلا جرم سميت هذه الحالة حياة ، فثبت أن المفهوم الأصلي من لفظ الحي كونه واقعا على أكمل أحواله وصفاته ، وإذا كان كذلك فقد زال الإشكال ؛ لأن المفهوم من الحي هو الكامل ، ولما لم يكن ذلك مقيدا بأنه كامل في هذا دون ذاك دل على أنه كامل على الإطلاق ، فقوله : الحي يفيد كونه كاملا على الإطلاق ، والكامل هو أن لا يكون قابلا للعدم لا في ذاته ولا في صفاته الحقيقية ولا في صفاته النسبية والإضافية ، ثم عند هذا إن خصصنا القيوم بكونه سببا لتقويم غيره فقد زال الإشكال ؛ لأن كونه سببا لتقويم غيره يدل على كونه متقوما بذاته ، وكونه قيوما يدل على كونه مقوما لغيره ، وإن جعلنا القيوم اسما يدل على كونه يتناول المتقوم بذاته والمقوم لغيره كان لفظ القيوم مفيدا فائدة لفظ الحي مع زيادة ، فهذا ما عندي في هذا الباب ، والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                                                            [ ص: 8 ] أما قوله تعالى : ( القيوم ) ففيه مسائل :

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الأولى : القيوم في اللغة مبالغة في القائم ، فلما اجتمعت الياء والواو ثم كان السابق ساكنا جعلتا ياء مشددة ، ولا يجوز أن يكون على فعول ؛ لأنه لو كان كذا لكان قووما ، وفيه ثلاث لغات : قيوم وقيام وقيم ، ويروى عن عمر رضي الله عنه أنه قرأ : الحي القيام . ومن الناس من قال : هذه اللفظة عبرية لا عربية ، لأنهم يقولون : حيا قيوما . وليس الأمر كذلك ، لأنا بينا أن له وجها صحيحا في اللغة ، ومثله : ما في الدار ديار وديور ودير ، وهو من الدوران ، أي : ما بها خلق يدور ، يعني : يجيء ويذهب ، وقال أمية بن أبي الصلت :


                                                                                                                                                                                                                                            قدرها المهيمن القيوم



                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثانية : اختلفت عبارات المفسرين في هذا الباب ، فقال مجاهد : القيوم القائم على كل شيء ، وتأويله أنه قائم بتدبير أمر الخلق في إيجادهم ، وفي أرزاقهم ، ونظيره من الآيات قوله تعالى : ( أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت ) [الرعد : 33] وقال : ( شهد الله أنه لا إله إلا هو ) [آل عمران : 18] إلى قوله ( قائما بالقسط ) [آل عمران : 18] وقال : ( إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده ) [فاطر : 41] وهذا القول يرجع حاصله إلى كونه مقوما لغيره ، وقال الضحاك : القيوم الدائم الوجود الذي يمتنع عليه التغير ، وأقول : هذا القول يرجع معناه إلى كونه قائما بنفسه في ذاته وفي وجوده ، وقال بعضهم : القيوم الذي لا ينام بالسريانية ، وهذا القول بعيد ؛ لأنه يصير قوله : ( لا تأخذه سنة ولا نوم ) .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية