المسألة الأولى : يروى أن إبراهيم عليه السلام لما احتج بتلك الحجة ، دعا ذلك الملك الكافر شخصين ، وقتل أحدهما ، واستبقى الآخر ، وقال : أنا أيضا أحيي وأميت ، هذا هو المنقول في التفسير ، وعندي أنه بعيد ، وذلك لأن الظاهر من حال إبراهيم أنه شرح حقيقة الإحياء وحقيقة الإماتة على الوجه الذي لخصناه في الاستدلال ، ومتى شرحه على ذلك الوجه امتنع أن يشتبه على العاقل الإماتة والإحياء على ذلك الوجه بالإماتة ، والإحياء بمعنى القتل وتركه ، ويبعد في الجمع العظيم أن يكونوا في الحماقة بحيث لا يعرفون هذا القدر من الفرق ، والمراد من الآية - والله أعلم - شيء آخر ، وهو أن إبراهيم صلى الله عليه وسلم لما احتج بالإحياء والإماتة من الله قال المنكر : تدعي الإحياء والإماتة من الله ابتداء من غير واسطة الأسباب الأرضية والأسباب السماوية ، أو تدعي صدور الإحياء والإماتة من الله تعالى بواسطة الأسباب الأرضية والأسباب السماوية ، أما الأول : فلا سبيل إليه ، وأما الثاني : فلا يدل على المقصود ؛ لأن الواحد منا يقدر على الإحياء والإماتة بواسطة سائر الأسباب ، فإن الجماع قد يفضي إلى الولد الحي بواسطة الأسباب الأرضية والسماوية ، وتناول السم قد يفضي إلى الموت . فلما ذكر نمروذ هذا السؤال على هذا الوجه أجاب إبراهيم عليه السلام بأن قال : هب أن الإحياء والإماتة حصلا من الله تعالى بواسطة الاتصالات الفلكية إلا أنه لا بد لتلك الاتصالات والحركات الفلكية من فاعل مدبر ، فإذا كان المدبر لتلك الحركات الفلكية هو الله تعالى ، كان الإحياء والإماتة الحاصلان بواسطة تلك الحركات الفلكية أيضا من الله تعالى ، وأما الإحياء والإماتة الصادران على البشر بواسطة الأسباب الفلكية والعنصرية فليست كذلك ؛ لأنه لا قدرة للبشر على الاتصالات الفلكية ، فظهر الفرق .
وإذا عرفت هذا فقوله : ( فإن الله يأتي بالشمس من المشرق ) ليس دليلا آخر ، بل تمام الدليل الأول ؛ ومعناه : أنه وإن كان الإحياء والإماتة من الله بواسطة حركات الأفلاك ، إلا أن حركات الأفلاك من الله فكان الإحياء والإماتة أيضا من الله تعالى ، وأما البشر فإنه وإن صدر منه الإحياء والإماتة بواسطة الاستعانة بالأسباب السماوية والأرضية إلا أن الأسباب ليست واقعة بقدرته ، فثبت أن الإحياء والإماتة الصادرين عن البشر ليست على ذلك الوجه ، وأنه لا يصلح نقضا عليه ، فهذا هو الذي أعتقده في كيفية جريان هذه المناظرة ، لا ما هو المشهور عند الكل ، والله أعلم بحقيقة الحال .
المسألة الثانية : أجمع القراء على إسقاط ألف " أنا " في الوصل في جميع القرآن ، إلا ما روي عن نافع من إثباته عند استقبال الهمزة ، والصحيح ما عليه الجمهور ؛ لأن ضمير المتكلم هو " أن " وهو الهمزة والنون ، فأما الألف فإنما تلحقها في الوقف كما تلحق الهاء في سكوته للوقف ، وكما أن هذه الهاء تسقط عند الوصل ، فكذا هذه الألف تسقط عند الوصل ؛ لأن ما يتصل به يقوم مقامه ، ألا ترى أن همزة الوصل إذا اتصلت الكلمة التي هي فيها بشيء سقطت ولم تثبت ؛ لأن ما يتصل به يتوصل به إلى النطق بما بعد الهمزة فلا تثبت الهمزة ، فكذا الألف في " أنا " والهاء التي في الوقف يجب سقوطها عند الوصل كما يجب سقوط الهمزة عند الوصل .
[ ص: 23 ] أما قوله تعالى : ( قال إبراهيم فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب ) فاعلم أن للناس في هذا المقام طريقين :
الأول : وهو طريقة أكثر المفسرين أن إبراهيم عليه السلام لما رأى من نمروذ أنه ألقى تلك الشبهة عدل عن ذلك إلى دليل آخر أوضح منه ، فقال : ( فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب ) فزعم أن الانتقال من دليل إلى دليل آخر أوضح منه جائز للمستدل .
فإن قيل : هلا قال نمروذ : فليأت ربك بها من المغرب ؟ .
قلنا : الجواب من وجهين :
أحدهما : أن هذه المحاجة كانت مع إبراهيم بعد إلقائه في النار وخروجه منها سالما ، فعلم أن من قدر على حفظ إبراهيم في تلك النار العظيمة من الاحتراق يقدر على أن يأتي بالشمس من المغرب .
والثاني : أن الله خذله وأنساه إيراد هذه الشبهة نصرة لنبيه عليه السلام .
والطريق الثاني ، وهو الذي قال به المحققون : أن هذا ما كان انتقالا من دليل إلى دليل آخر ، بل الدليل واحد في الموضعين وهو أنا نرى حدوث أشياء لا يقدر الخلق على إحداثها فلا بد من قادر آخر يتولى إحداثها وهو الله سبحانه وتعالى ، ثم إن قولنا : نرى حدوث أشياء لا يقدر الخلق على إحداثها ، له أمثلة منها : الإحياء ، والإماتة ، ومنها السحاب ، والرعد ، والبرق ، ومنها حركات الأفلاك ، والكواكب ، والمستدل لا يجوز له أن ينتقل من دليل إلى دليل آخر ، لكن إذا ذكر لإيضاح كلام مثالا فله أن ينتقل من ذلك المثال إلى مثال آخر ، فكان ما فعله إبراهيم من باب ما يكون الدليل واحدا إلا أنه يقع الانتقال عند إيضاحه من مثال إلى مثال آخر ، وليس من باب ما يقع الانتقال من دليل إلى دليل آخر ، وهذا الوجه أحسن من الأول وأليق بكلام أهل التحقيق منه ، والإشكال عليهما من وجوه :
الإشكال الأول : أن صاحب الشبهة إذا ذكر الشبهة ، ووقعت تلك الشبهة في الأسماع ، وجب على المحق القادر على الجواب أن يذكر الجواب في الحال إزالة لذلك التلبيس والجهل عن العقول ، فلما طعن الملك الكافر في الدليل الأول ، أو في المثال الأول بتلك الشبهة ، كان الاشتغال بإزالة تلك الشبهة واجبا مضيقا ، فكيف يليق بالمعصوم أن يترك ذلك الواجب ؟ .
والإشكال الثاني : أنه لما أورد المبطل ذلك السؤال ، فإذا ترك المحق الكلام الأول وانتقل إلى كلام آخر ، أوهم أن كلامه الأول كان ضعيفا ساقطا ، وأنه ما كان عالما بضعفه ، وأن ذلك المبطل علم وجه ضعفه وكونه ساقطا ، وأنه كان عالما بضعفه فنبه عليه ، وهذا ربما يوجب سقوط وقع الرسول وحقارة شأنه وإنه غير جائز .
والإشكال الثالث : وهو أنه وإن كان يحسن الانتقال من دليل إلى دليل ، أو من مثال إلى مثال ، لكنه يجب أن يكون المنتقل إليه أوضح وأقرب ، وههنا ليس الأمر كذلك ، لأن جنس الإحياء لا قدرة للخلق عليه ، وأما جنس تحريك الأجسام ، فللخلق قدرة عليه ، ولا يبعد في العقل وجود ملك عظيم في الجثة أعظم من السماوات ، وأنه هو الذي يكون محركا للسماوات ، وعلى هذا التقدير : أظهر وأقوى من الاستدلال بطلوع الشمس على وجود الصانع ، فكيف يليق بالنبي المعصوم أن ينتقل من الدليل الأوضح الأظهر إلى الدليل الخفي الذي لا يكون في نفس الأمر قويا ؟ . الاستدلال بالإحياء والإماتة على وجود الصانع
[ ص: 24 ] والإشكال الرابع : أن دلالة الإحياء والإماتة على وجود الصانع أقوى من دلالة طلوع الشمس عليه ، وذلك لأنا نرى في ذات الإنسان وصفاته تبديلات واختلافات ، والتبدل قوي الدلالة على الحاجة إلى المؤثر القادر ، أما الشمس فلا نرى في ذاتها تبدلا ، ولا في صفاتها تبدلا ، ولا في منهج حركاتها تبدلا البتة ، فكانت دلالة الإحياء والإماتة على الصانع أقوى ، فكان العدول منه إلى طلوع الشمس انتقالا من الأقوى الأجلى إلى الأخفى الأضعف ، وإنه لا يجوز .
الإشكال الخامس : أن نمروذ لما لم يستح من معارضة الإحياء والإماتة الصادرين عن الله تعالى بالقتل والتخلية ، فكيف يؤمن منه عند استدلال إبراهيم بطلوع الشمس أن يقول : طلوع الشمس من المشرق مني ، فإن كان لك إله فقل له حتى يطلعها من المغرب ، وعند ذلك التزم المحققون من المفسرين ذلك فقالوا : إنه لو أورد هذا السؤال لكان من الواجب أن تطلع الشمس من المغرب ، ومن المعلوم أن الاشتغال بإظهار فساد سؤاله في الإحياء والإماتة أسهل بكثير من التزام إطلاع الشمس من المغرب ، فبتقدير أن يحصل طلوع الشمس من المغرب ، إلا أنه يكون الدليل على وجود الصانع هو طلوع الشمس من المغرب ، ولا يكون طلوع الشمس من المشرق دليلا على وجود الصانع ، وحينئذ يصير دليله الثاني ضائعا كما صار دليله الأول ضائعا ، وأيضا فما الدليل الذي حمل إبراهيم عليه السلام على أن ترك الجواب عن ذلك السؤال الركيك والتزم الانقطاع ، واعترف بالحاجة إلى الانتقال إلى تمسك بدليل لا يمكنه تمشيته إلا بالتزام طلوع الشمس من المغرب ، وبتقدير أن يأتي بإطلاع الشمس من المغرب فإنه يضيع دليله الثاني كما ضاع الأول ، ومن المعلوم أن التزام هذه المحذورات لا يليق بأقل الناس علما فضلا عن أفضل العقلاء وأعلم العلماء ، فظهر بهذا أن هذا التفسير الذي أجمع المفسرون عليه ضعيف ، وأما الوجه الذي ذكرناه فلا يتوجه عليه شيء من هذه الإشكالات ، لأنا نقول : لما احتج إبراهيم عليه السلام بالإحياء والإماتة أورد الخصم عليه سؤالا لا يليق بالعقلاء ، وهو أنك إذا ادعيت الإحياء والإماتة لا بواسطة ، فذلك لا تجد إلى إثباته سبيلا ، وإن ادعيت حصولهما بواسطة حركات الأفلاك فنظيره أو ما يقرب منه حاصل للبشر ، فأجاب إبراهيم عليه السلام بأن الإحياء والإماتة وإن حصلا بواسطة حركات الأفلاك ، لكن تلك الحركات حصلت من الله تعالى ، وذلك لا يقدح في كون الإحياء والإماتة من الله تعالى ، بخلاف الخلق فإنه لا قدرة لهم على تحريكات الأفلاك فلا جرم لا يكون الإحياء والإماتة صادرين منهم ، ومتى حملنا الكلام على هذا الوجه لم يكن شيء من المحذورات المذكورة لازما عليه ، والله أعلم بحقيقة كلامه .
أما قوله تعالى : ( فبهت الذي كفر ) فالمعنى : فبقي مغلوبا لا يجد مقالا ، ولا للمسألة جوابا ، وهو كقوله : ( بل تأتيهم بغتة فتبهتهم فلا يستطيعون ردها ) [الأنبياء : 40] قال الواحدي : وفيه ثلاث لغات : بهت الرجل فهو مبهوت ، وبهت ، وبهت ، قال عروة العذري :
فما هو إلا أن أراها فجاءة فأبهت حتى ما أكاد أجيب
أي : أتحير وأسكت .
ثم قال : ( والله لا يهدي القوم الظالمين ) وتأويله على قولنا ظاهر ، أما المعتزلة فقال القاضي : يحتمل [ ص: 25 ] وجوها :
منها أنه لا يهديهم لظلمهم وكفرهم للحجاج وللحق كما يهدي المؤمن ، فإنه لا بد في الكافر من أن يعجز وينقطع .
وأقول : هذا ضعيف ؛ لأن قوله لا يهديهم للحجاج ، إنما يصح حيث يكون الحجاج موجودا ولا حجاج على الكفر ، فكيف يصح أن يقال : إن الله تعالى لا يهديه إليه ؟ قال القاضي : ومنها أن يريد أنه لا يهديهم لزيادات الألطاف من حيث إنهم بالكفر والظلم سدوا على أنفسهم طريق الانتفاع به .
وأقول : هذا أيضا ضعيف ، لأن تلك الزيادات إذا كانت في حقهم ممتنعة عقلا لم يصح أن يقال : إنه تعالى لا يهديهم ، كما لا يقال : إنه تعالى يجمع بين الضدين فلا يجمع بين الوجود والعدم . قال القاضي : ومنها أنه تعالى لا يهديهم إلى الثواب في الآخرة ولا يهديهم إلى الجنة .
وأقول : هذا أيضا ضعيف ، لأن المذكور ههنا أمر الاستدلال وتحصيل المعرفة ولم يجر للجنة ذكر ، فيبعد صرف اللفظ إلى الجنة ، بل أقول : اللائق بسياق الآية أن يقال : إنه تعالى لما بين أن الدليل كان قد بلغ في الظهور والحجة إلى حيث صار المبطل كالمبهوت عند سماعه إلا أن الله تعالى لما لم يقدر له الاهتداء لم ينفعه ذلك الدليل الظاهر ، ونظير هذا التفسير قوله : ( ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شيء قبلا ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله ) [الأنعام : 111] .