المسألة الأولى : اختلف القراء في إثبات الهاء في الوصل من قوله : ( لم يتسنه ) و ( اقتده ) [ الأنعام : 90] و ( ماليه ) [ الحاقة : 28 ] و ( سلطانيه ) [ الحاقة : 29 ] و ( ما هيه ) [القارعة : 10] بعد أن اتفقوا على إثباتها في الوقف ، فقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر وعاصم هذه الحروف كلها بإثبات الهاء في الوصل ، وكان حمزة يحذفهن في الوصل وكان الكسائي يحذف الهاء في الوصل من قوله : ( لم يتسنه ) و ( اقتده ) [الأنعام : 90] ويثبتها في الوصل في الباقي ، ولم يختلفوا في قوله : ( لم أوت كتابيه ولم أدر ما حسابيه ) [الحاقة : 25 ، 26] أنها بالهاء في الوصل والوقف .
إذا عرفت هذا فنقول : أما الحذف ففيه وجوه :
أحدها : أن اشتقاق قوله ( يتسنه ) من السنة ، زعم كثير من الناس أن أصل السنة سنوة ، قالوا : والدليل عليه أنهم يقولون في الاشتقاق منها أسنت القوم إذا أصابتهم السنة ، وقال الشاعر :
ورجال مكة مسنتون عجاف
ويقولون في جمعها : سنوات ، وفي الفعل منها : سانيت الرجل مساناة إذا عامله سنة سنة ، وفي التصغير : سنية . إذا ثبت هذا كان الهاء في قوله : ( لم يتسنه ) للسكت لا للأصل .
وثانيها : نقل الواحدي عن الفراء أنه قال : يجوز أن تكون أصل سنة سننة ، لأنهم قالوا في تصغيرها : سنينة وإن كان ذلك قليلا ، فعلى هذا يجوز أن يكون ( لم يتسنه ) أصله لم يتسنن ، ثم أسقطت النون الأخيرة ثم أدخل عليها هاء السكت عند الوقف عليه ، كما أن أصل لم يتقض البازي لم يتقضض البازي ثم أسقطت الضاد الأخيرة ، ثم أدخل عليه هاء [ ص: 31 ] السكت عند الوقف ، فيقال : لم يتقضه .
وثالثها : أن يكون ( لم يتسنه ) مأخوذا من قوله تعالى : ( من حمإ مسنون ) [الحجر : 26] والسن في اللغة هو الصب ، هكذا قال أبو علي الفارسي ، فقوله : لم يتسنن ، أي : الشراب بقي بحاله لم ينضب ، وقد أتى عليه مائة عام ، ثم إنه حذفت النون الأخيرة وأبدلت بهاء السكت عند الوقف على ما قررناه في الوجه الثاني ، فهذه الوجوه الثلاثة لبيان الحذف ، وأما بيان الإثبات فهو أن ( لم يتسنه ) مأخوذ من السنة ، والسنة أصلها سنهة ، بدليل أنه يقال في تصغيرها : سنيهة ، ويقال : سانهت النخلة بمعنى عاومت ، وآجرت الدار مسانهة ، وإذا كان كذلك فالهاء في ( لم يتسنه ) لام الفعل ، فلا جرم لم يحذف البتة لا عند الوصل ولا عند الوقف .
المسألة الثانية : قوله تعالى : ( لم يتسنه ) أي : لم يتغير وأصل معنى ( لم يتسنه ) أي : لم يأت عليه السنون لأن مر السنين إذا لم يتغير فكأنها لم تأت عليه ، ونقلنا عن أبي علي الفارسي : لم يتسنن أي : لم ينضب الشراب . بقي في الآية سؤالان :
السؤال الأول : أنه تعالى لما قال : ( بل لبثت مائة عام ) كان من حقه أن يذكر عقيبه ما يدل على ذلك . وقوله : ( فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه ) لا يدل على أنه لبث مائة عام ، بل يدل ظاهرا على ما قاله من أنه لبث يوما أو بعض يوم .
والجواب : أنه كلما كانت الشبهة أقوى مع علم الإنسان في الجملة أنها شبهة كان سماع الدليل المزيل لتلك الشبهة آكد ووقوعه في العمل أكمل ، فكأنه تعالى لما قال : ( بل لبثت مائة عام ) قال : ( فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه ) فإن هذا مما يؤكد قولك : ( لبثت يوما أو بعض يوم ) فحينئذ يعظم اشتياقك إلى الدليل الذي يكشف عن هذه الشبهة ، ثم قال بعده : ( وانظر إلى حمارك ) فرأى الحمار صار رميما وعظاما نخرة فعظم تعجبه من قدرة الله تعالى ، فإن الطعام والشراب يسرع التغير فيهما ، والحمار ربما بقي دهرا طويلا وزمانا عظيما ، فرأى ما لا يبقى باقيا ، وهو الطعام والشراب ، وما يبقى غير باق وهو العظام ، فعظم تعجبه من قدرة الله تعالى ، وتمكن وقوع هذه الحجة في عقله وفي قلبه .
السؤال الثاني : أنه تعالى ذكر الطعام والشراب ، وقوله : ( لم يتسنه ) راجع إلى الشراب لا إلى الطعام .
والجواب : كما يوصف الشراب بأنه لم يتغير ، كذلك يوصف الطعام بأنه لم يتغير ، لا سيما إذا كان الطعام لطيفا يتسارع الفساد إليه ، والمروي أن طعامه كان التين والعنب ، وشرابه كان عصير العنب واللبن ، وفي قراءة ابن مسعود رضي الله عنه " وانظر إلى طعامك وهذا شرابك لم يتسنن " .
أما قوله تعالى : ( وانظر إلى حمارك ) فالمعنى أنه عرفه طول مدة موته بأن شاهد عظام حماره نخرة رميمة ، وهذا في الحقيقة لا يدل بذاته ، لأنه لما شاهد انقلاب العظام النخرة حيا في الحال علم أن القادر على ذلك قادر على أن يميت الحمار في الحال ويجعل عظامه رميمة نخرة في الحال ، وحينئذ لا يمكن الاستدلال بعظام الحمار على طول مدة الموت ، بل انقلاب عظام الحمار إلى الحياة معجزة دالة على صدق ما سمع من قوله : ( بل لبثت مائة عام ) قال الضحاك : معنى قوله أنه لما أحيي بعد الموت كان دليلا على صحة البعث ، وقال غيره : كان آية لأن الله تعالى أحياه شابا أسود الرأس ، وبنو بنيه شيوخ بيض اللحى والرءوس .
[ ص: 32 ] أما قوله تعالى : ( ولنجعلك آية للناس ) فقد بينا أن المراد منه التشريف والتعظيم والوعد بالدرجة العالية في الدين والدنيا ، وذلك لا يليق بمن مات على الكفر والشك في قدرة الله تعالى .
فإن قيل : ما فائدة الواو في قوله : ( ولنجعلك ) ؟ قلنا : قال الفراء : دخلت الواو لأنه فعل بعدها مضمر ، لأنه لو قال : وانظر إلى حمارك لنجعلك آية ، كان النظر إلى الحمار شرطا ، وجعله آية جزاء ، وهذا المعنى غير مطلوب من هذا الكلام ، أما لما قال : ( ولنجعلك آية ) كان المعنى : ولنجعلك آية فعلنا ما فعلنا من الإماتة والإحياء ، ومثله قوله تعالى : ( وكذلك نصرف الآيات وليقولوا درست ) [الأنعام : 15] والمعنى : وليقولوا درست صرفنا الآيات ( وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين ) [الأنعام : 75] أي : ونريه الملكوت .
أما قوله تعالى : ( وانظر إلى العظام ) فأكثر المفسرين على أن المراد بالعظام عظام حماره ، فإن اللام فيه بدل الكناية ، وقال آخرون : أرادوا به عظام هذا الرجل نفسه ، قالوا : إنه تعالى أحيا رأسه وعينيه ، وكانت بقية بدنه عظاما نخرة ، فكان ينظر إلى أجزاء عظام نفسه فرآها تجتمع وينضم البعض إلى البعض ، وكان يرى حماره واقفا كما ربطه حين كان حيا لم يأكل ولم يشرب مائة عام ، وتقدير الكلام على هذا الوجه : وانظر إلى عظامك ، وهذا قول قتادة والربيع وابن زيد ، وهو عندي ضعيف لوجوه :
أحدها : أن قوله ( لبثت يوما أو بعض يوم ) إنما يليق بمن لا يرى أثر التغير في نفسه فيظن أنه كان نائما في بعض يوم ، أما من شاهد أجزاء بدنة متفرقة ، وعظام بدنة رميمة نخرة ، فلا يليق به ذلك القول .
وثانيها : أنه تعالى حكى عنه أنه خاطبه وأجاب ، فيجب أن يكون المجيب هو الذي أماته الله ، فإذا كانت الإماتة راجعة إلى كله ، فالمجيب أيضا الذي بعثه الله يجب أن يكون جملة الشخص .
وثالثها : أن قوله : ( فأماته الله مائة عام ثم بعثه ) يدل على أن تلك الجملة أحياها وبعثها .
أما قوله : ( كيف ننشرها ) فالمراد يحييها ، يقال : أنشر الله الميت ونشره ، قال تعالى : ( ثم إذا شاء أنشره ) [عبس : 22 ] وقد وصف الله العظام بالإحياء في قوله تعالى : ( قال من يحيي العظام وهي رميم قل يحييها ) [يس : 78 ، 79] وقرئ " ننشرها " بفتح النون وضم الشين ، قال الفراء : كأنه ذهب إلى النشر بعد الطي ، وذلك أن بالحياة يكون الانبساط في التصرف ، فهو كأنه مطوي ما دام ميتا ، فإذا عاد صار كأنه نشر بعد الطي ، وقرأ حمزة والكسائي " ننشزها " بالزاي المنقوطة من فوق ، والمعنى نرفع بعضها إلى بعض ، وإنشاز الشيء رفعه ، يقال أنشزته فنشز ، أي : رفعته فارتفع ، ويقال لما ارتفع من الأرض نشز ، ومنه نشوز المرأة ، وهو أن ترتفع عن حد رضا الزوج ، ومعنى الآية على هذه القراءة : كيف نرفعها من الأرض فنردها إلى أماكنها من الجسد ونركب بعضها على البعض ، وروي عن أنه كان يقرأ " ننشزها " بفتح النون وضم الشين والزاي ، ووجهه ما قال النخعي الأخفش أنه يقال : نشزته وأنشزته أي : رفعته . والمعنى من جميع القراءات أنه تعالى ركب العظام بعضها على بعض حتى اتصلت على نظام ، ثم بسط اللحم عليها ، ونشر العروق والأعصاب واللحوم والجلود عليها ، ورفع بعضه إلى جنب البعض ، فيكون كل القراءات داخلا في ذلك .
ثم قال تعالى : ( فلما تبين له ) وهذا راجع إلى ما تقدم ذكره من قوله : ( أنى يحيي هذه الله بعد موتها ) [ ص: 33 ] والمعنى : فلما تبين له وقوع ما كان يستبعد وقوعه . وقال صاحب الكشاف : فاعل " تبين له " مضمر تقديره فلما تبين له أن الله على كل شيء قدير قال : ( أعلم أن الله على كل شيء قدير ) فحذف الأول لدلالة الثاني عليه ، وهذا عندي فيه تعسف ، بل الصحيح أنه لما تبين له أمر الإماتة والإحياء على سبيل المشاهدة قال : ( أعلم أن الله على كل شيء قدير ) وتأويله : أني قد علمت مشاهدة ما كنت أعلمه قبل ذلك الاستدلال . وقرأ حمزة والكسائي " قال اعلم " على لفظ الأمر ، وفيه وجهان :
أحدهما : أنه عند التبين أمر نفسه بذلك ، قال الأعشى :
ودع أمامة إن الركب قد رحلوا
والثاني : أن الله تعالى قال : ( أعلم أن الله على كل شيء قدير ) ويدل على صحة هذا التأويل قراءة عبد الله والأعمش : ( قيل أعلم أن الله على كل شيء قدير ) ويؤكده قوله في قصة إبراهيم : ( رب أرني كيف تحي الموتى ) ثم قال في آخرها : ( واعلم أن الله عزيز حكيم ) قال القاضي : والقراءة الأولى أولى ، وذلك لأن الأمر بالشيء إنما يحسن عند عدم المأمور به ، وههنا العلم حاصل بدليل قوله : ( فلما تبين له ) فكان الأمر بتحصيل العلم بعد ذلك غير جائز ، أما الإخبار عن أنه حصل كان جائزا .