( قول معروف ومغفرة خير من صدقة يتبعها أذى والله غني حليم يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى كالذي ينفق ماله رئاء الناس ولا يؤمن بالله واليوم الآخر فمثله كمثل صفوان عليه تراب فأصابه وابل فتركه صلدا لا يقدرون على شيء مما كسبوا والله لا يهدي القوم الكافرين ومثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضاة الله وتثبيتا من أنفسهم كمثل جنة بربوة أصابها وابل فآتت أكلها ضعفين فإن لم يصبها وابل فطل والله بما تعملون بصير )
قوله تعالى : ( قول معروف ومغفرة خير من صدقة يتبعها أذى والله غني حليم ياأيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى كالذي ينفق ماله رئاء الناس ولا يؤمن بالله واليوم الآخر فمثله كمثل صفوان عليه تراب فأصابه وابل فتركه صلدا لا يقدرون على شيء مما كسبوا والله لا يهدي القوم الكافرين ومثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضاة الله وتثبيتا من أنفسهم كمثل جنة بربوة أصابها وابل فآتت أكلها ضعفين فإن لم يصبها وابل فطل والله بما تعملون بصير ) .
أما القول المعروف ، فهو القول الذي تقبله القلوب ولا تنكره ، والمراد منه ههنا أن يرد السائل بطريق جميل حسن ، وقال عطاء : هذه حسنة ، أما المغفرة ففيه وجوه :
أحدها : أن الفقير إذا رد بغير مقصوده شق عليه ذلك ، فربما حمله ذلك على بذاءة اللسان ، فأمر بالعفو عن بذاءة الفقير والصفح عن إساءته .
وثانيها : أن يكون المراد ونيل مغفرة من الله بسبب الرد الجميل .
وثالثها : أن يكون المراد من المغفرة أن يستر حاجة الفقير ولا يهتك ستره ، رده بأحسن الطرق وبالمغفرة أن لا يهتك ستره بأن يذكر حاله عند من يكره الفقير وقوفه على حاله . والمراد من القول المعروف
ورابعها : أن قوله : ( قول معروف ) خطاب مع المسئول بأن يرد السائل بأحسن الطرق ، وقوله : ( ومغفرة ) خطاب مع السائل بأن يعذر المسئول في ذلك الرد ، فربما لم يقدر على ذلك الشيء في تلك الحالة ، ثم بين تعالى أن فعل الرجل لهذين الأمرين خير له من صدقة يتبعها أذى ، وسبب هذا الترجيح أنه إذا أعطى ، ثم أتبع الإعطاء بالإيذاء ، فهناك جمع بين الإنفاع والإضرار ، وربما لم يف ثواب الإنفاع بعقاب الإضرار ، وأما القول المعروف ففيه إنفاع من حيث إنه يتضمن إيصال السرور إلى قلب المسلم ولم يقترن به الإضرار ، فكان هذا خيرا من الأول .
[ ص: 44 ] واعلم أن من الناس من قال : إن الآية واردة في التطوع ؛ لأن الواجب لا يحل منعه ، ولا رد السائل منه ، وقد يحتمل أن يراد به الواجب ، وقد يعدل به عن سائل إلى سائل وعن فقير إلى فقير .
ثم قال : ( والله غني ) عن صدقة العباد فإنما أمركم بها ليثيبكم عليها ( حليم ) إذ لم يعجل بالعقوبة على من يمن ويؤذي بصدقته ، وهذا سخط منه ووعيد له . ثم إنه تعالى وصف هذين النوعين من الإنفاق ؛ أحدهما : الذي يتبعه المن والأذى . والثاني : الذي لا يتبعه المن والأذى ، فشرح حال كل واحد منهما ، وضرب مثلا لكل واحد منهما .
فقال في القسم الأول الذي يتبعه المن والأذى : ( ياأيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى كالذي ينفق ماله رئاء الناس ولا يؤمن بالله واليوم الآخر ) وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : قال القاضي : إنه تعالى أكد النهي عن وأزال كل شبهة إبطال الصدقة بالمن والأذى للمرجئة بأن بين أن المراد أن المن والأذى يبطلان الصدقة ، ومعلوم أن الصدقة قد وقعت وتقدمت ، فلا يصح أن تبطل ، فالمراد إبطال أجرها وثوابها ؛ لأن الأجر لم يحصل بعد ، وهو مستقبل فيصح إبطاله بما يأتيه من المن والأذى .
واعلم أنه تعالى ذكر لكيفية إبطال أجر الصدقة بالمن والأذى مثلين ، فمثله أولا بمن ينفق ماله رئاء الناس ، وهو مع ذلك كافر لا يؤمن بالله واليوم الآخر ؛ لأن بطلان أجر نفقة هذا المرائي الكافر أظهر من بطلان أجر صدقة من يتبعها المن والأذى ، ثم مثله ثانيا بالصفوان الذي وقع عليه تراب وغبار ، ثم أصابه المطر القوي ، فيزيل ذلك الغبار عنه حتى يصير كأنه ما كان عليه غبار ولا تراب أصلا ، فالكافر كالصفوان ، والتراب مثل ذلك الإنفاق ، والوابل كالكفر الذي يحبط عمل الكافر ، وكالمن والأذى اللذين يحبطان عمل هذا المنفق ، قال : فكما أن الوابل أزال التراب الذي وقع على الصفوان ، فكذا المن والأذى يوجب أن يكونا مبطلين لأجر الإنفاق بعد حصوله ، وذلك صريح في القول بالإحباط والتكفير .
قال الجبائي : وكما دل هذا النص على صحة قولنا فالعقل دل عليه أيضا ، وذلك لأن من أطاع وعصى ، فلو استحق ثواب طاعته وعقاب معصيته لوجب أن يستحق النقيضين ؛ لأن شرط الثواب أن يكون منفعة خالصة دائمة مقرونة بالإجلال ، وشرط العقاب أن يكون مضرة خالصة دائمة مقرونة بالإذلال ، فلو لم تقع المحابطة لحصل استحقاق النقيضين وذلك محال ، ولأنه حين يعاقبه فقد منعه الإثابة ، ومنع الإثابة ظلم ، وهذا العقاب عدل ، فيلزم أن يكون هذا العقاب عدلا من حيث إنه حقه ، وأن يكون ظلما من حيث إنه منع الإثابة ، فيكون ظالما بنفس الفعل الذي هو عادل فيه وذلك محال ، فصح بهذا قولنا في الإحباط والتكفير بهذا النص وبدلالة العقل ، هذا كلام المعتزلة .
وأما أصحابنا فإنهم قالوا : ليس المراد بقوله : ( لا تبطلوا ) النهي عن إزالة هذا الثواب بعد ثبوته ، بل المراد به أن يأتي بهذا العمل باطلا ، وذلك لأنه إذا قصد به غير وجه الله تعالى فقد أتى به من الابتداء على نعت البطلان ، واحتج أصحابنا على بطلان قول المعتزلة بوجوه من الدلائل :
أولها : أن النافي والطارئ إن لم يكن بينهما منافاة لم يلزم من طريان الطارئ زوال النافي ، وإن [ ص: 45 ] حصلت بينهما منافاة لم يكن اندفاع الطارئ أولى من زوال النافي ، بل ربما كان هذا أولى لأن الدفع أسهل من الرفع .
ثانيها : أن الطارئ لو أبطل لكان إما أن يبطل ما دخل منه في الوجود في الماضي وهو محال ؛ لأن الماضي انقضى ولم يبق في الحال ، وإعدام المعدوم محال ، وإما أن يبطل ما هو موجود في الحال وهو أيضا محال ؛ لأن الموجود في الحال لو أعدمه في الحال لزم الجمع بين العدم والوجود وهو محال ، وإما أن يبطل ما سيوجد في المستقبل وهو محال ؛ لأن الذي سيوجد في المستقبل معدوم في الحال وإعدام ما لم يوجد بعد محال .
وثالثها : أن شرط طريان الطارئ زوال النافي فلو جعلنا زوال النافي معللا بطريان الطارئ لزم الدور وهو محال .
ورابعها : أن الطارئ إذا طرأ وأعدم الثواب السابق فالثواب السابق إما أن يعدم من هذا الطارئ شيئا أو لا يعدم منه شيئا ، والأول هو الموازنة وهو قول أبي هاشم وهو باطل ، وذلك لأن الموجب لعدم كل واحد منهما وجود الآخر ، فلو حصل العدمان معا اللذان هما معلولان لزم حصول الوجودين اللذين هما علتان ، فيلزم أن يكون كل واحد منهما موجودا حال كون كل واحد منهما معدوما وهو محال .
وأما الثاني ، وهو قول ؛ فهو أيضا باطل لأن العقاب الطارئ لما أزال الثواب السابق ، وذلك الثواب السابق ليس له أثر البتة في إزالة الشيء من هذا العقاب الطارئ ، فحينئذ لا يحصل له من العمل الذي أوجب الثواب السابق فائدة أصلا لا في جلب ثواب ولا في دفع عقاب ، وذلك على مضادة النص الصريح في قوله : ( أبي علي الجبائي فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ) [الزلزلة : 7] ولأنه خلاف العدل حيث يحمل العبد مشقة الطاعة ، ولم يظهر له منها أثر لا في جلب المنفعة ولا في دفع المضرة .
وخامسها : وهو أنكم تقولون : ، وذلك محال من القول ؛ لأن أجزاء الاستحقاقات متساوية في الماهية ، فالصغيرة الطارئة إذا انصرف تأثيرها إلى بعض تلك الاستحقاقات دون البعض مع استواء الكل في الماهية كان ذلك ترجيحا للممكن من غير مرجح وهو محال ، فلم يبق إلا أن يقال بأن الصغيرة الطارئة تزيل كل تلك الاستحقاقات وهو باطل بالاتفاق ، أو لا تزيل شيئا منها وهو المطلوب . الصغيرة تحبط بعض أجزاء الثواب دون البعض
وسادسها : وهو أن عقاب الكبيرة إذا كان أكثر من ثواب العمل المتقدم ، فإما أن يقال بأن المؤثر في إبطال الثواب بعض أجزاء العقاب الطارئ أو كلها ، والأول باطل لأن اختصاص بعض تلك الأجزاء بالمؤثرية دون البعض مع استواء كلها في الماهية ترجيح للممكن من غير مرجح وهو محال ، والقسم الثاني باطل ، لأنه حينئذ يجتمع على إبطال الجزء الواحد من الثواب جزءان من العقاب مع أن كل واحد من ذينك الجزأين مستقل بإبطال ذلك الثواب ، فقد اجتمع على الأثر الواحد مؤثران مستقلان وذلك محال ؛ لأنه يستغني بكل واحد منهما فيكون غنيا عنهما معا حال كونه محتاجا إليهما معا وهو محال .
وسابعها : وهو أنه لا منافاة بين هذين الاستحقاقين ؛ لأن السيد إذا قال لعبده : احفظ المتاع لئلا يسرقه [ ص: 46 ] السارق ، ثم في ذلك الوقت جاء العدو وقصد قتل السيد ، فاشتغل العبد بمحاربة ذلك العدو وقتله ، فذلك الفعل من العبد يستوجب استحقاقه للمدح والتعظيم حيث دفع القتل عن سيده ، ويوجب استحقاقه للذم حيث عرض ماله للسرقة ، وكل واحد من الاستحقاقين ثابت ، والعقلاء يرجعون في مثل هذه الواقعة إلى الترجيح أو إلى المهايأة ، فأما أن يحكموا بانتفاء أحد الاستحقاقين وزواله فذلك مدفوع في بداهة العقول .
وثامنها : أن الموجب لحصول هذا الاستحقاق هو الفعل المتقدم ، فهذا الطارئ إما أن يكون له أثر في جهة اقتضاء ذلك الفعل لذلك الاستحقاق أو لا يكون ، والأول محال لأن ذلك الفعل إنما يكون موجودا في الزمان الماضي ، فلو كان لهذا الطارئ أثر في ذلك الفعل الماضي لكان هذا إيقاعا للتأثير في الزمان الماضي وهو محال ، وإن لم يكن للطارئ أثر في اقتضاء ذلك الفعل السابق لذلك الاستحقاق وجب أن يبقى ذلك الاقتضاء كما كان وأن لا يزول .
ولا يقال لم لا يجوز أن يكون هذا الطارئ مانعا من ظهور الأثر على ذلك السابق ؛ لأنا نقول : إذا كان هذا الطارئ لا يمكنه أن يعمل بجهة اقتضاء ذلك الفعل السابق أصلا والبتة من حيث إيقاع الأثر في الماضي محال ، واندفاع أثر هذا الطارئ ممكن في الجملة ، كان الماضي على هذا التقدير أقوى من هذا الحادث فكان الماضي بدفع هذا الحادث أولى من العكس .
وتاسعها : أن هؤلاء المعتزلة يقولون : إن على سبيل الإخلاص ، وذلك محال ؛ لأنا نعلم بالضرورة أن ثواب هذه الطاعات أكثر من عقاب هذه المعصية الواحدة ، والأعظم لا يحيط بالأقل ، قال شرب جرعة من الخمر يحبط ثواب الإيمان وطاعة سبعين سنة الجبائي : إنه لا يمتنع أن تكون الكبيرة الواحدة أعظم من كل طاعة ؛ لأن معصية الله تعظم على قدر كثرة نعمه وإحسانه ، كما أن استحقاق قيام الربانية وقد رباه وملكه وبلغه إلى النهاية العظيمة أعظم من قيامه بحقه لكثرة نعمه ، فإذا كانت نعم الله على عباده بحيث لا تضبط عظما وكثرة لم يمتنع أن يستحق على المعصية الواحدة العقاب العظيم الذي يوافي على ثواب جملة الطاعات . واعلم أن هذا العذر ضعيف ؛ لأن الملك إذا عظمت نعمه على عبده ثم إن ذلك العبد قام بحق عبوديته خمسين سنة ثم إنه كسر رأس قلم ذلك الملك قصدا ، فلو أحبط الملك جميع طاعاته بسبب ذلك القدر من الجرم فكل أحد يذمه وينسبه إلى ترك الإنصاف والقسوة ، ومعلوم أن جميع المعاصي بالنسبة إلى جلال الله تعالى أقل من كسر رأس القلم ، فظهر أن ما قالوه على خلاف قياس العقول .
وعاشرها : أن إيمان ساعة يهدم كفر سبعين سنة ، فالإيمان سبعين سنة كيف يهدم بفسق ساعة ؟! وهذا مما لا يقبله العقل ، والله أعلم .
فهذه جملة الدلائل العقلية على فساد القول بالمحابطة في تمسك المعتزلة بهذه الآية ، فنقول : قوله تعالى : ( ياأيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى ) يحتمل أمرين :
أحدهما : لا تأتوا به باطلا ، وذلك أن ينوي بالصدقة الرياء والسمعة ، فتكون هذه الصدقة حين وجدت حصلت باطلة ، وهذا التأويل لا يضرنا البتة .
الوجه الثاني : أن يكون المراد بالإبطال أن يؤتى بها على وجه يوجب الثواب ، ثم بعد ذلك إذا أتبعت بالمن والأذى صار عقاب المن والأذى مزيلا لثواب تلك الصدقة ، وعلى هذا الوجه ينفعهم التمسك بالآية ، فلم كان حمل اللفظ على هذا الوجه الثاني أولى من حمله على الوجه الأول ؟ واعلم أن الله تعالى ذكر لذلك مثلين : أحدهما يطابق الاحتمال الأول ، وهو قوله : ( كالذي ينفق ماله رئاء الناس ولا يؤمن بالله ) إذ من [ ص: 47 ] المعلوم أن المراد من كونه عمل هذا باطلا أنه دخل في الوجود باطلا ، لا أنه دخل صحيحا ، ثم يزول ؛ لأن المانع من صحة هذا العمل هو الكفر ، والكفر مقارن له ، فيمتنع دخوله صحيحا في الوجود ، فهذا المثل يشهد لما ذهبنا إليه من التأويل ، وأما المثل الثاني وهو الصفوان الذي وقع عليه غبار وتراب ثم أصابه وابل ، فهذا يشهد لتأويلهم ؛ لأنه تعالى جعل الوابل مزيلا لذلك الغبار بعد وقوع الغبار على الصفوان ، فكذا ههنا يجب أن يكون المن والأذى مزيلين للأجر والثواب بعد حصول استحقاق الأجر ، إلا أن لنا أن نقول : لا نسلم أن المشبه بوقوع الغبار على الصفوان حصول الأجر للكافر ، بل المشبه بذلك صدور هذا العمل الذي لولا كونه مقرونا بالنية الفاسدة لكان موجبا لحصول الأجر والثواب ، فالمشبه بالتراب الواقع على الصفوان هو ذلك العمل الصادر منه ، وحمل الكلام على ما ذكرناه أولى ؛ لأن الغبار إذا وقع على الصفوان لم يكن ملتصقا به ولا غائصا فيه البتة ، بل كان ذلك الاتصال كالانفصال ، فهو في مرأى العين متصل ، وفي الحقيقة غير متصل ، فكذا الإنفاق المقرون بالمن والأذى ، يرى في الظاهر أنه عمل من أعمال البر ، وفي الحقيقة ليس كذلك ، فظهر أن استدلالهم بهذه الآية ضعيف . وأما الحجة العقلية التي تمسكوا بها فقد بينا أنه لا منافاة في الجمع بين الاستحقاقين ، وأن مقتضى ذلك الجمع إما الترجيح وإما المهايأة .
المسألة الثانية : قال رضي الله عنهما : لا تبطلوا صدقاتكم بالمن على الله بسبب صدقتكم ، وبالأذى لذلك السائل ، وقال الباقون : بالمن على الفقير ، وبالأذى للفقير . وقول ابن عباس رضي الله عنهما محتمل ؛ لأن الإنسان إذا أنفق متبجحا بفعله ، ولم يسلك طريقة التواضع والانقطاع إلى الله والاعتراف بأن ذلك من فضله وتوفيقه وإحسانه ، فكان كالمان على الله تعالى وإن كان القول الثاني أظهر له . ابن عباس