أما قوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=275ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا ) ففيه مسائل :
المسألة الأولى : القوم كانوا في تحليل الربا على هذه الشبهة ، وهي أن من اشترى ثوبا بعشرة ثم باعه بأحد عشر فهذا حلال ، فكذا إذا باع العشرة بأحد عشرة يجب أن يكون حلالا ؛ لأنه لا فرق في العقل بين الأمرين ، فهذا في ربا النقد ، وأما في ربا النسيئة فكذلك أيضا ؛ لأنه لو باع الثوب الذي يساوي عشرة في الحال بأحد عشر إلى شهر جاز فكذا إذا أعطى العشرة بأحد عشر إلى شهر ، وجب أن يجوز ؛ لأنه لا فرق في العقل بين الصورتين ، وذلك لأنه إنما جاز هناك ؛ لأنه حصل التراضي من الجانبين ، فكذا ههنا لما حصل التراضي من الجانبين وجب أن يجوز أيضا ، فالبياعات إنما شرعت لدفع الحاجات ، ولعل الإنسان أن يكون صفر اليد في الحال شديد الحاجة ، ويكون له في المستقبل من الزمان أموال كثيرة ، فإذا لم يجز الربا لم يعطه رب المال شيئا فيبقى الإنسان في الشدة والحاجة ، إما بتقدير جواز الربا فيعطيه رب المال طمعا في الزيادة ، والمديون يرده عند وجدان المال ، وإعطاء تلك الزيادة عند وجدان المال أسهل عليه من البقاء في الحاجة قبل وجدان المال ، فهذا يقتضي حل الربا كما حكمنا بحل سائر البياعات لأجل دفع الحاجة ، فهذا هو شبهة القوم ، والله تعالى أجاب عنه بحرف واحد ، وهو قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=275وأحل الله البيع وحرم الربا ) ووجه الجواب أن ما ذكرتم معارضة للنص بالقياس ، وهو من عمل إبليس ، فإنه تعالى لما أمره بالسجود لآدم صلى الله عليه وسلم عارض النص بالقياس ، فقال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=38&ayano=76أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين ) [ ص : 76] واعلم أن نفاة القياس
[ ص: 80 ] يتمسكون بهذا الحرف ، فقالوا : لو كان الدين بالقياس لكانت هذه الشبهة لازمة ، فلما كانت مدفوعة علمنا أن
nindex.php?page=treesubj&link=21700الدين بالنص لا بالقياس . وذكر
القفال رحمة الله عليه الفرق بين البابين ، فقال : من باع ثوبا يساوي عشرة بعشرين فقد جعل ذات الثوب مقابلا بالعشرين ، فلما حصل التراضي على هذا التقابل صار كل واحد منهما مقابلا للآخر في المالية عندهما ، فلم يكن أخذ من صاحبه شيئا بغير عوض ، أما إذا باع العشرة بالعشرة فقد أخذ العشرة الزائدة من غير عوض ، ولا يمكن أن يقال : إن غرضه هو الإمهال في مدة الأجل ؛ لأن الإمهال ليس مالا أو شيئا يشار إليه حتى يجعله عوضا عن العشرة الزائدة ، فظهر الفرق بين الصورتين .
المسألة الثانية : ظاهر قوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=275ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا ) يدل على أن الوعيد إنما يحصل باستحلالهم الربا دون الإقدام عليه وأكله مع التحريم ، وعلى هذا التقدير لا يثبت بهذه الآية كون
nindex.php?page=treesubj&link=5366_27521الربا من الكبائر .
فإن قيل : مقدمة الآية تدل على أن قيامهم يوم القيامة متخبطين كان بسبب أنهم أكلوا الربا .
قلنا : إن قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=275ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا ) صريح في أن العلة لذلك التخبط هو هذا القول والاعتقاد فقط ، وعند هذا يجب تأويل مقدمة الآية ، وقد بينا أنه ليس المراد من الأكل نفس الأكل ، وذكرنا عليه وجوها من الدلائل ، فأنتم حملتموه على التصرف في الربا ، ونحن نحمله على استحلال الربا واستطابته ، وذلك لأن الأكل قد يعبر به عن الاستحلال ، يقال : فلان يأكل مال الله قضما خضما ، أي : يستحل التصرف فيه ، وإذا حملنا الأكل على الاستحلال ، صارت مقدمة الآية مطابقة لمؤخرتها ، فهذا ما يدل عليه لفظ الآية ، إلا أن جمهور المفسرين حملوا الآية على وعيد من يتصرف في مال الربا ، لا على وعيد من يستحل هذا العقد .
المسألة الثالثة : في الآية سؤال ، وهو أنه لم لم يقل : إنما الربا مثل البيع ، وذلك لأن حل البيع متفق عليه ، فهم أرادوا أن يقيسوا عليه الربا ، ومن حق القياس أن يشبه محل الخلاف بمحل الوفاق ، فكان نظم الآية أن يقال : إنما الربا مثل البيع ، فما الحكمة في أن قلب هذه القضية ، فقال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=275إنما البيع مثل الربا ) ؟
والجواب : أنه لم يكن مقصود القوم أن يتمسكوا بنظم القياس ، بل كان غرضهم أن الربا والبيع متماثلان من جميع الوجوه المطلوبة فكيف يجوز تخصيص أحد المثلين بالحل والثاني بالحرمة وعلى هذا التقدير فأيهما قدم أو أخر جاز .
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=275ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا ) فَفِيهِ مَسَائِلُ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : الْقَوْمُ كَانُوا فِي تَحْلِيلِ الرِّبَا عَلَى هَذِهِ الشُّبْهَةِ ، وَهِيَ أَنَّ مَنِ اشْتَرَى ثَوْبًا بِعَشَرَةٍ ثُمَّ بَاعَهُ بِأَحَدَ عَشَرَ فَهَذَا حَلَالٌ ، فَكَذَا إِذَا بَاعَ الْعَشَرَةَ بِأَحَدَ عَشَرَةَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ حَلَالًا ؛ لِأَنَّهُ لَا فَرْقَ فِي الْعَقْلِ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ ، فَهَذَا فِي رِبَا النَّقْدِ ، وَأَمَّا فِي رِبَا النَّسِيئَةِ فَكَذَلِكَ أَيْضًا ؛ لِأَنَّهُ لَوْ بَاعَ الثَّوْبَ الَّذِي يُسَاوِي عَشَرَةً فِي الْحَالِ بِأَحَدَ عَشَرَ إِلَى شَهْرٍ جَازَ فَكَذَا إِذَا أَعْطَى الْعَشَرَةَ بِأَحَدَ عَشَرَ إِلَى شَهْرٍ ، وَجَبَ أَنْ يَجُوزَ ؛ لِأَنَّهُ لَا فَرْقَ فِي الْعَقْلِ بَيْنَ الصُّورَتَيْنِ ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ إِنَّمَا جَازَ هُنَاكَ ؛ لِأَنَّهُ حَصَلَ التَّرَاضِي مِنَ الْجَانِبَيْنِ ، فَكَذَا هَهُنَا لَمَّا حَصَلَ التَّرَاضِي مِنَ الْجَانِبَيْنِ وَجَبَ أَنْ يَجُوزَ أَيْضًا ، فَالْبِيَاعَاتُ إِنَّمَا شُرِّعَتْ لِدَفْعِ الْحَاجَاتِ ، وَلِعَلَّ الْإِنْسَانَ أَنْ يَكُونَ صِفْرَ الْيَدِ فِي الْحَالِ شَدِيدَ الْحَاجَةِ ، وَيَكُونَ لَهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ مِنَ الزَّمَانِ أَمْوَالٌ كَثِيرَةٌ ، فَإِذَا لَمْ يَجُزِ الرِّبَا لَمْ يُعْطِهِ رَبُّ الْمَالِ شَيْئًا فَيَبْقَى الْإِنْسَانُ فِي الشِّدَّةِ وَالْحَاجَةِ ، إِمَّا بِتَقْدِيرِ جَوَازِ الرِّبَا فَيُعْطِيهِ رَبُّ الْمَالِ طَمَعًا فِي الزِّيَادَةِ ، وَالْمَدْيُونُ يَرُدُّهُ عِنْدَ وِجْدَانِ الْمَالِ ، وَإِعْطَاءُ تِلْكَ الزِّيَادَةِ عِنْدَ وِجْدَانِ الْمَالِ أَسْهَلُ عَلَيْهِ مِنَ الْبَقَاءِ فِي الْحَاجَةِ قَبْلَ وِجْدَانِ الْمَالِ ، فَهَذَا يَقْتَضِي حِلَّ الرِّبَا كَمَا حَكَمْنَا بِحِلِّ سَائِرِ الْبِيَاعَاتِ لِأَجْلِ دَفْعِ الْحَاجَةِ ، فَهَذَا هُوَ شُبْهَةُ الْقَوْمِ ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَجَابَ عَنْهُ بِحَرْفٍ وَاحِدٍ ، وَهُوَ قَوْلُهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=275وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا ) وَوَجْهُ الْجَوَابِ أَنَّ مَا ذَكَرْتُمْ مُعَارَضَةٌ لِلنَّصِّ بِالْقِيَاسِ ، وَهُوَ مِنْ عَمَلِ إِبْلِيسَ ، فَإِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَهُ بِالسُّجُودِ لِآدَمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَارَضَ النَّصَّ بِالْقِيَاسِ ، فَقَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=38&ayano=76أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ ) [ ص : 76] وَاعْلَمْ أَنَّ نُفَاةَ الْقِيَاسِ
[ ص: 80 ] يَتَمَسَّكُونَ بِهَذَا الْحَرْفِ ، فَقَالُوا : لَوْ كَانَ الدِّينُ بِالْقِيَاسِ لَكَانَتْ هَذِهِ الشُّبْهَةُ لَازِمَةً ، فَلَمَّا كَانَتْ مَدْفُوعَةً عَلِمْنَا أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=21700الدِّينَ بِالنَّصِّ لَا بِالْقِيَاسِ . وَذَكَرَ
الْقَفَّالُ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ الْفَرْقَ بَيْنَ الْبَابَيْنِ ، فَقَالَ : مَنْ بَاعَ ثَوْبًا يُسَاوِي عَشَرَةً بِعِشْرِينَ فَقَدْ جَعَلَ ذَاتَ الثَّوْبِ مُقَابِلًا بِالْعِشْرِينِ ، فَلَمَّا حَصَلَ التَّرَاضِي عَلَى هَذَا التَّقَابُلِ صَارَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُقَابِلًا لِلْآخَرِ فِي الْمَالِيَّةِ عِنْدَهُمَا ، فَلَمْ يَكُنْ أَخَذَ مِنْ صَاحِبِهِ شَيْئًا بِغَيْرِ عِوَضٍ ، أَمَّا إِذَا بَاعَ الْعَشَرَةَ بِالْعَشَرَةِ فَقَدْ أَخَذَ الْعَشَرَةَ الزَّائِدَةَ مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ : إِنَّ غَرَضَهُ هُوَ الْإِمْهَالُ فِي مُدَّةِ الْأَجَلِ ؛ لِأَنَّ الْإِمْهَالَ لَيْسَ مَالًا أَوْ شَيْئًا يُشَارُ إِلَيْهِ حَتَّى يَجْعَلَهُ عِوَضًا عَنِ الْعَشَرَةِ الزَّائِدَةِ ، فَظَهَرَ الْفَرْقُ بَيْنَ الصُّورَتَيْنِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : ظَاهِرُ قَوْلِهِ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=275ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا ) يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْوَعِيدَ إِنَّمَا يَحْصُلُ بِاسْتِحْلَالِهِمُ الرِّبَا دُونَ الْإِقْدَامِ عَلَيْهِ وَأَكْلِهِ مَعَ التَّحْرِيمِ ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ لَا يَثْبُتُ بِهَذِهِ الْآيَةِ كَوْنُ
nindex.php?page=treesubj&link=5366_27521الرِّبَا مِنَ الْكَبَائِرِ .
فَإِنْ قِيلَ : مُقَدِّمَةُ الْآيَةِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ قِيَامَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُتَخَبِّطِينَ كَانَ بِسَبَبِ أَنَّهُمْ أَكَلُوا الرِّبَا .
قُلْنَا : إِنَّ قَوْلَهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=275ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا ) صَرِيحٌ فِي أَنَّ الْعِلَّةَ لِذَلِكَ التَّخَبُّطِ هُوَ هَذَا الْقَوْلُ وَالِاعْتِقَادُ فَقَطْ ، وَعِنْدَ هَذَا يَجِبُ تَأْوِيلُ مُقَدِّمَةِ الْآيَةِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ مِنَ الْأَكْلِ نَفْسَ الْأَكْلِ ، وَذَكَرْنَا عَلَيْهِ وُجُوهًا مِنَ الدَّلَائِلِ ، فَأَنْتُمْ حَمَلْتُمُوهُ عَلَى التَّصَرُّفِ فِي الرِّبَا ، وَنَحْنُ نَحْمِلُهُ عَلَى اسْتِحْلَالِ الرِّبَا وَاسْتَطَابَتِهِ ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْأَكْلَ قَدْ يُعَبَّرُ بِهِ عَنِ الِاسْتِحْلَالِ ، يُقَالُ : فُلَانٌ يَأْكُلُ مَالَ اللَّهِ قَضْمًا خَضْمًا ، أَيْ : يَسْتَحِلُّ التَّصَرُّفَ فِيهِ ، وَإِذَا حَمَلْنَا الْأَكْلَ عَلَى الِاسْتِحْلَالِ ، صَارَتْ مُقَدِّمَةُ الْآيَةِ مُطَابِقَةً لِمُؤَخِّرَتِهَا ، فَهَذَا مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ لَفْظُ الْآيَةِ ، إِلَّا أَنَّ جُمْهُورَ الْمُفَسِّرِينَ حَمَلُوا الْآيَةَ عَلَى وَعِيدِ مَنْ يَتَصَرَّفُ فِي مَالِ الرِّبَا ، لَا عَلَى وَعِيدِ مَنْ يَسْتَحِلُّ هَذَا الْعَقْدَ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : فِي الْآيَةِ سُؤَالٌ ، وَهُوَ أَنَّهُ لِمَ لَمْ يَقُلْ : إِنَّمَا الرِّبَا مِثْلُ الْبَيْعِ ، وَذَلِكَ لِأَنَّ حِلَّ الْبَيْعِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ ، فَهُمْ أَرَادُوا أَنْ يَقِيسُوا عَلَيْهِ الرِّبَا ، وَمِنْ حَقِّ الْقِيَاسِ أَنْ يُشَبَّهَ مَحَلُّ الْخِلَافِ بِمَحَلِّ الْوِفَاقِ ، فَكَانَ نَظْمُ الْآيَةِ أَنْ يُقَالَ : إِنَّمَا الرِّبَا مِثْلُ الْبَيْعِ ، فَمَا الْحِكْمَةُ فِي أَنْ قَلَبَ هَذِهِ الْقَضِيَّةَ ، فَقَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=275إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا ) ؟
وَالْجَوَابُ : أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَقْصُودُ الْقَوْمِ أَنْ يَتَمَسَّكُوا بِنَظْمِ الْقِيَاسِ ، بَلْ كَانَ غَرَضُهُمْ أَنَّ الرِّبَا وَالْبَيْعَ مُتَمَاثِلَانِ مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ الْمَطْلُوبَةِ فَكَيْفَ يَجُوزُ تَخْصِيصُ أَحَدِ الْمِثْلَيْنِ بِالْحِلِّ وَالثَّانِي بِالْحُرْمَةِ وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَأَيُّهُمَا قُدِّمَ أَوْ أُخِّرَ جَازَ .