( يمحق الله الربا ويربي الصدقات والله لا يحب كل كفار أثيم )
قوله تعالى ( يمحق الله الربا ويربي الصدقات والله لا يحب كل كفار أثيم ) .
اعلم أنه تعالى لما بالغ في الزجر عن الربا ، وكان قد بالغ في الآيات المتقدمة في الأمر بالصدقات ، ذكر ههنا ما يجري مجرى الدعاء إلى ، وكشف عن فساده ، وذلك لأن الداعي إلى فعل الربا تحصيل المزيد في الخيرات ، والصارف عن الصدقات الاحتراز عن نقصان الخير فبين تعالى أن الربا ، وإن كان في زيادة في الحال ، إلا أنه نقصان في الحقيقة ، وأن الصدقة وإن كانت نقصانا في الصورة ، إلا أنها زيادة في المعنى ، ولما كان الأمر كذلك كان اللائق بالعاقل أن لا يلتفت إلى ما يقضي به الطبع والحس من الدواعي والصوارف ، بل يعول على ما ندبه الشرع إليه من الدواعي والصوارف فهذا وجه النظم وفي الآية مسائل : ترك الصدقات وفعل الربا
المسألة الأولى : المحق نقصان الشيء حالا بعد حال ، ومنه المحاق في الهلال يقال : محقه الله فانمحق وامتحق ، ويقال : هجير ماحق إذا نقص في كل شيء بحرارته .
المسألة الثانية : اعلم أن محق الربا وإرباء الصدقات يحتمل أن يكون في الدنيا ، وأن يكون في الآخرة ، أما في الدنيا فنقول : من وجوه : محق الربا في الدنيا
أحدها : أن الغالب في المرابي وإن كثر ماله أنه تؤول عاقبته إلى الفقر ، وتزول البركة عن ماله ، قال صلى الله عليه وسلم : " " . الربا وإن كثر فإلى قل
وثانيها : إن لم ينقص ماله فإن عاقبته الذم ، والنقص ، وسقوط العدالة ، وزوال الأمانة ، وحصول اسم الفسق والقسوة والغلظة .
وثالثها : أن الفقراء الذين يشاهدون أنه أخذ أموالهم بسبب الربا يلعنونه ويبغضونه ويدعون عليه ، وذلك يكون سببا لزوال الخير والبركة عنه في نفسه وماله .
ورابعها : أنه متى اشتهر بين الخلق أنه إنما جمع ماله من الربا توجهت إليه الأطماع ، وقصده كل ظالم ومارق وطماع ، ويقولون : إن ذلك المال ليس له في الحقيقة فلا يترك في يده . وأما أن فلوجوه : الربا سبب للمحق في الآخرة
الأول : قال رضي الله عنهما : معنى هذا المحق أن الله تعالى لا يقبل منه صدقة ولا جهادا ، ولا حجا ، ولا صلة رحم ، وثانيها : أن مال الدنيا لا يبقى عند الموت ، ويبقى التبعة والعقوبة ، وذلك هو الخسار الأكبر ، وثالثها : أنه ثبت في الحديث أن الأغنياء يدخلون الجنة بعد الفقراء بخمسمائة عام ، فإذا كان الغني من الوجه الحلال كذلك ، فما ظنك بالغني من الوجه الحرام المقطوع بحرمته ، كيف يكون ؟ فذلك هو المحق والنقصان . ابن عباس
وأما فيحتمل أن يكون المراد في الدنيا ، وأن يكون المراد في الآخرة . [ ص: 84 ] أما في الدنيا فمن وجوه : إرباء الصدقات
أحدها : أن من كان لله كان الله له ، فإذا كان الإنسان مع فقره وحاجته يحسن إلى عبيد الله ، فالله تعالى لا يتركه ضائعا في الدنيا ، وفي الحديث الذي رويناه فيما تقدم أن الملك ينادي كل يوم " " . اللهم يسر لكل منفق خلفا ولممسك تلفا
وثانيها : أنه يزداد كل يوم في جاهه وذكره الجميل ، وميل القلوب إليه وسكون الناس إليه , وذلك أفضل من المال مع أضداد هذه الأحوال .
وثالثها : أن الفقراء يعينونه بالدعوات الصالحة .
ورابعها : الأطماع تنقطع عنه فإنه متى اشتهر أنه متشمر لإصلاح مهمات الفقراء والضعفاء ، فكل أحد يحترز عن منازعته ، وكل ظالم ، وكل طماع لا يجوز أخذ شيء من ماله ، اللهم إلا نادرا ، فهذا هو المراد بإرباء الصدقات في الدنيا .
وأما إرباؤها في الآخرة فقد روى أنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أبو هريرة ، ويأخذها بيمينه فيربيها كما يربي أحدكم مهره أو فلوه حتى أن اللقمة تصير مثل أحد الله تعالى يقبل الصدقات ولا يقبل منها إلا الطيب " وتصديق ذلك بين في كتاب الله : ( إن ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده ويأخذ الصدقات ) [ التوبة : 104] و : ( يمحق الله الربا ويربي الصدقات ) قال القفال رحمه الله تعالى : ونظير قوله : ( يمحق الله الربا ) المثل الذي ضربه فيما تقدم بصفوان عليه تراب فأصابه وابل فتركه صلدا ، ونظير قوله : ( ويربي الصدقات ) المثل الذي ضربه الله بحبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة .
أما قوله : ( والله لا يحب كل كفار أثيم ) فاعلم أن الكفار فعال من الكفر ، ومعناه من كان ذلك منه عادة ، والعرب تسمي المقيم على الشيء بهذا ، فتقول : فلان فعال للخير أمار به . والأثيم فعيل بمعنى فاعل ، وهو الآثم ، وهو أيضا مبالغة في الاستمرار على اكتساب الآثام والتمادي فيه ، وذلك لا يليق إلا بمن ينكر تحريم الربا فيكون جاحدا ، وفيه وجه آخر وهو أن يكون الكفار راجعا إلى المستحيل والأثيم يكون راجعا إلى من يفعله مع اعتقاد التحريم ، فتكون الآية جامعة للفريقين .