ثم قال : ( أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى ) والمعنى أن النسيان غالب طباع النساء لكثرة البرد والرطوبة في أمزجتهن , واجتماع المرأتين على النسيان أبعد في العقل من صدور النسيان على المرأة الواحدة فهذا هو المقصود من الآية ثم فيها مسائل : فأقيمت المرأتان مقام الرجل الواحد حتى إن إحداهما لو نسيت ذكرتها الأخرى
المسألة الأولى : قرأ حمزة " إن تضل " بكسر إن " فتذكر " بالرفع والتشديد ، ومعناه الجزاء , موضع " تضل " جزم إلا أنه لا يتبين في التضعيف ، " فتذكر " رفع لأن ما بعد الجزاء مبتدأ ، وأما سائر القراء فقرءوا بنصب " أن " وفيه وجهان : أحدهما : التقدير : لأن تضل ، فحذف منه الخافض . والثاني : على أنه مفعول له ، أي إرادة أن تضل .
فإن قيل : كيف يصح هذا الكلام والإشهاد للإذكار لا الإضلال .
قلنا : ههنا غرضان : أحدهما : حصول الإشهاد ، وذلك لا يأتي إلا بتذكير إحدى المرأتين الثانية ، والثاني : بيان تفضيل الرجل على المرأة حتى يبين أن إقامة المرأتين مقام الرجل الواحد هو العدل في القضية ، وذلك لا يأتي إلا في ضلال إحدى المرأتين ، فإذا كان كل واحد من هذين الأمرين أعني الإشهاد وبيان فضل الرجل على المرأة مقصودا ، ولا سبيل إلى ذلك إلا بضلال إحداهما وتذكر الأخرى ، لا جرم صار هذان الأمران مطلوبين ، هذا ما خطر ببالي من الجواب عن هذا السؤال وقت كتابة هذا الموضع ، وللنحويين أجوبة أخرى ما استحسنتها والكتب مشتملة عليها ، والله أعلم .
[ ص: 100 ] المسألة الثانية : الضلال في قوله : ( أن تضل إحداهما ) فيه وجهان : أحدهما : أنه بمعنى النسيان ، قال تعالى : ( وضل عنهم ما كانوا يفترون ) [ النحل : 87 ] أي ذهب عنهم . الثاني : أن يكون ذلك من ضل في الطريق إذا لم يهتد له ، والوجهان متقاربان ، وقال أبو عمرو : الغيبوبة . أصل الضلال في اللغة
المسألة الثالثة : قرأ نافع وابن عامر وعاصم والكسائي " فتذكر " بالتشديد والنصب ، وقرأ حمزة بالتشديد والرفع ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بالتخفيف والنصب ، وهما لغتان ذكر وأذكر نحو نزل وأنزل ، والتشديد أكثر استعمالا ، قال تعالى : ( فذكر إنما أنت مذكر ) [ الغاشية : 21] ومن قرأ بالتخفيف فقد جعل الفعل متعديا بهمزة الأفعال .
وعامة المفسرين على أن هذا التذكير والإذكار من النسيان إلا ما يروى عن أنه قال في قوله : ( سفيان بن عيينة فتذكر إحداهما الأخرى ) أن تجعلها ذكرا يعني أن ، وهذا الوجه منقول عن مجموع شهادة المرأتين مثل شهادة الرجل الواحد ، قال : إذا شهدت المرأة ثم جاءت الأخرى فشهدت معها أذكرتها ؛ لأنهما يقومان مقام رجل واحد وهذا الوجه باطل باتفاق عامة المفسرين ، ويدل على ضعفه وجهان : الأول : أن النساء لو بلغن ما بلغن ، ولم يكن معهن رجل لم تجز شهادتهن ، فإذا كان كذلك فالمرأة الثانية ما ذكرت الأولى . أبي عمرو بن العلاء
الوجه الثاني : أن قوله : ( فتذكر ) مقابل لما قبله من قوله : ( أن تضل إحداهما ) فلما كان الضلال مفسرا بالنسيان كان الإذكار مفسرا بما يقابل النسيان .