وأما قوله تعالى : ( من النساء والبنين ) ففيه بحثان :
البحث الأول : " من " في قوله ( من النساء والبنين ) كما في قوله ( فاجتنبوا الرجس من الأوثان ) [ الحج : 30 ] فكما أن المعنى فاجتنبوا الأوثان التي هي رجس فكذا أيضا معنى هذه الآية : وكذا وكذا التي هي مشتهاة . زين للناس حب النساء
البحث الثاني : اعلم أنه تعالى عدد هاهنا من المشتهيات أمورا سبعة :
أولها : النساء وإنما قدمهن على الكل لأن الالتذاذ بهن أكثر والاستئناس بهن أتم ولذلك قال تعالى : ( خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة ) [ الروم : 21 ] ومما يؤكد ذلك أن العشق الشديد المفلق المهلك لا يتفق إلا في هذا النوع من الشهوة .
المرتبة الثانية : حب الولد ; ولما كان حب الولد الذكر أكثر من حب الأنثى ، لا جرم خصه الله تعالى بالذكر ، ووجه التمتع بهم ظاهر من حيث السرور والتكثر بهم إلى غير ذلك .
[ ص: 171 ] واعلم أن لله تعالى ، فإنه لولا هذا الحب لما حصل التوالد والتناسل ولأدى ذلك إلى انقطاع النسل ، وهذه المحبة كأنها حالة غريزية ولذلك فإنها حاصلة لجميع الحيوانات ، والحكمة فيه ما ذكرنا من بقاء النسل . في إيجاد حب الزوجة والولد في قلب الإنسان حكمة بالغة
المرتبة الثالثة والرابعة : ( والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة ) وفيه أبحاث :
البحث الأول : قال الزجاج : القنطار مأخوذ من عقد الشيء وإحكامه ، والقنطرة مأخوذة من ذلك لتوثقها بعقد الطاق ، فالقنطار مال كثير يتوثق الإنسان به في دفع أصناف النوائب ، وحكى أبو عبيدة عن العرب أنهم يقولون : إنه وزن لا يحد . واعلم أن هذا هو الصحيح ، ومن الناس من حاول تحديده ، وفيه روايات : فروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " أبو هريرة " وروى القنطار اثنا عشر ألف أوقية أنس عنه أيضا أن القنطار ألف دينار ، وروى أنه عليه السلام قال : أبي بن كعب القنطار ألف ومائتا أوقية وقال : القنطار ألف دينار أو اثنا عشر ألف درهم ، وهو مقدار الدية ، وبه قال ابن عباس الحسن ، وقال الكلبي : القنطار بلسان الروم ملء مسك ثور من ذهب أو فضة ، وفيه أقوال سوى ما ذكرنا لكنا تركناها لأنها غير معضودة بحجة البتة .
البحث الثاني : ( المقنطرة ) منفعلة من القنطار ، وهو للتأكيد ، كقولهم : ألف مؤلفة ، وبدرة مبدرة ، وإبل مؤبلة ، ودراهم مدرهمة ، وقال الكلبي : القناطير ثلاثة ، والمقنطرة المضاعفة ، فكان المجموع ستة .
البحث الثالث : الذهب والفضة إنما كانا محبوبين لأنهما جعلا ثمن جميع الأشياء ، فمالكهما كالمالك لجميع الأشياء ، وصفة المالكية هي القدرة ، والقدرة صفة كمال ، والكمال محبوب لذاته ، فلما كان الذهب والفضة أكمل الوسائل إلى تحصيل هذا الكمال الذي هو محبوب لذاته وما لا يوجد المحبوب إلا به فهو محبوب ، لا جرم كانا محبوبين .