[ ص: 7 ] اعلم أنه تعالى لما ذكر في الآية المتقدمة ما يدل على أنه يفصل الآيات ليظهر الحق وليستبين سبيل المجرمين ، ذكر في هذه الآية أنه تعالى نهى عن سلوك سبيلهم . فقال : ( قل إني نهيت أن أعبد الذين تدعون من دون الله ) وبين أن الذين يعبدونها إنما يعبدونها بناء على محض الهوى والتقليد ، لا على سبيل الحجة والدليل ؛ لأنها جمادات وأجحار وهي أخس مرتبة من الإنسان بكثير ، وكون الأشرف مشتغلا بعبادة الأخس أمر يدفعه صريح العقل . وأيضا إن القوم كانوا ينحتون تلك الأصنام ويركبونها ، ومن المعلوم بالبديهة أنه يقبح من هذا العامل الصانع أنه يعبد معموله ومصنوعه . فثبت أن عبادتها مبنية على الهوى ، ومضادة للهدى ، وهذا هو المراد من قوله : قل لا أتبع أهواءكم ) ثم قال : ( قد ضللت إذا وما أنا من المهتدين ) أي إن اتبعت أهواءكم فأنا ضال وما أنا من المهتدين في شيء . والمقصود كأنه يقول لهم أنتم كذلك . ولما نفى أن يكون الهوى متبعا ، نبه على ما يجب اتباعه بقوله : ( قل إني على بينة من ربي ) أي في أنه لا معبود سواه ، وكذبتم أنتم حيث أشركتم به غيره .
واعلم أنه - عليه الصلاة والسلام - ، كان يخوفهم بنزول العذاب عليهم بسبب هذا الشرك . والقوم لإصرارهم على الكفر كانوا يستعجلون نزول ذلك العذاب . فقال تعالى قل يا محمد : ( ما عندي ما تستعجلون به ) يعني قولهم : ( اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم ) [ الأنفال : 32 ] والمراد أن ذلك العذاب ينزله الله في الوقت الذي أراد إنزاله فيه ، ولا قدرة لي على تقديمه أو تأخيره . ثم قال : ( إن الحكم إلا لله ) وهذا مطلق يتناول الكل . والمراد ههنا إن الحكم إلا لله فقط في تأخير عذابهم "يقضي الحق" أي القضاء الحق في كل ما يقضي من التأخير والتعجيل ( وهو خير الفاصلين ) أي القاضين ، وفيه مسألتان :
المسألة الأولى : احتج أصحابنا بقوله : ( إن الحكم إلا لله ) على أنه ، فيمتنع منه فعل الكفر إلا إذا قضى الله به وحكم به . وكذلك في جميع الأفعال . والدليل عليه أنه تعالى قال : ( لا يقدر العبد على أمر من الأمور إلا إذا قضى الله به إن الحكم إلا لله ) وهذا يفيد الحصر ، بمعنى أنه لا حكم إلا لله . واحتج المعتزلة بقوله : "يقضي الحق" ومعناه أن كل ما قضى به فهو الحق . وهذا يقتضي أن لا يريد الكفر من الكافر . ولا المعصية من العاصي لأن ذلك ليس الحق . والله أعلم .
المسألة الثانية : قرأ ابن كثير ونافع وعاصم ( يقص الحق ) بالصاد من القصص ، يعني أن كل ما أنبأ به وأمر به فهو من أقاصيص الحق ، كقوله : ( نحن نقص عليك أحسن القصص ) [ يوسف : 3 ] وقرأ الباقون "يقض الحق" والمكتوب في المصاحف "يقض" بغير ياء ؛ لأنها سقطت في اللفظ لالتقاء الساكنين كما كتبوا ( سندع الزبانية ) ، ( فما تغن النذر ) وقوله : ( يقض الحق ) قال الزجاج : فيه وجهان : جائز أن يكون "الحق" صفة المصدر والتقدير : يقض القضاء الحق . ويجوز أن يكون " يقض الحق" يصنع الحق ؛ لأن كل شيء صنعه الله فهو حق . وعلى هذا التقدير "الحق" يكون مفعولا به وقضى بمعنى صنع . قال الهذلي :
وعليهما مسرودتان قضاهما داود أو صنع السوابغ تبع
أي صنعهما داود . واحتج أبو عمرو على هذه القراءة بقوله : ( وهو خير الفاصلين ) قال : والفصل يكون في القضاء ، لا في القصص .
[ ص: 8 ] أجاب أبو علي الفارسي فقال : القصص ههنا بمعنى القول . وقد جاء الفصل في القول قال تعالى : ( إنه لقول فصل ) [الطارق : 13] وقال : ( أحكمت آياته ثم فصلت ) [ هود : 1 ] وقال : ( نفصل الآيات ) [ الأنعام : 55 ] .