المسألة الرابعة : قالت الشيعة : إن أحدا من آباء الرسول - عليه الصلاة والسلام - وأجداده ما كان كافرا إبراهيم كان كافرا وذكروا أن وأنكروا أن يقال : إن والد آزر كان عم إبراهيم - عليه السلام - . وما كان والدا له . واحتجوا على قولهم بوجوه :
الحجة الأولى : أن آباء الأنبياء ما كانوا كفارا ويدل عليه وجوه :
منها قوله تعالى : ( الذي يراك حين تقوم وتقلبك في الساجدين ) [ الشعراء : 218 ، 219 ] .
قيل معناه : إنه كان ينقل روحه من ساجد إلى ساجد وبهذا التقدير : فالآية دالة على أن جميع آباء محمد - عليه السلام - كانوا مسلمين . وحينئذ يجب القطع بأن والد إبراهيم - عليه السلام - كان مسلما .
فإن قيل : قوله : ( وتقلبك في الساجدين ) [الشعراء : 219] يحتمل وجوها أخر :
أحدها : إنه لما نسخ فرض قيام الليل طاف الرسول - صلى الله عليه وسلم - تلك الليلة على بيوت الصحابة ؛ لينظر ماذا يصنعون لشدة حرصه على ما يظهر منهم من الطاعات فوجدها كبيوت الزنابير لكثرة ما سمع من أصوات قراءتهم وتسبيحهم وتهليلهم . فالمراد من قوله : ( وتقلبك في الساجدين ) [الشعراء : 219] طوافه - صلوات الله عليه - تلك الليلة على الساجدين .
وثانيها : المراد أنه - عليه السلام - كان يصلي بالجماعة فتقلبه في الساجدين معناه : كونه فيما بينهم ومختلطا بهم حال القيام والركوع والسجود .
وثالثها : أن يكون المراد أنه ما يخفى حالك على الله كلما قمت وتقلبت مع الساجدين في الاشتغال بأمور الدين .
ورابعها : المراد تقلب بصره فيمن يصلي خلفه ، والدليل عليه [ ص: 33 ] قوله - عليه السلام - : فهذه الوجوه الأربعة مما يحتملها ظاهر الآية ، فسقط ما ذكرتم . أتموا الركوع والسجود فإني أراكم من وراء ظهري
والجواب : لفظ الآية محتمل للكل ، فليس حمل الآية على البعض أولى من حملها على الباقي . فوجب أن نحملها على الكل وحينئذ يحصل المقصود ، ومما يدل أيضا على أن أحدا من آباء محمد - عليه السلام - ما كان من المشركين قوله - عليه السلام - : لم أزل أنقل من أصلاب الطاهرين إلى أرحام الطاهرات وقال تعالى : ( إنما المشركون نجس ) [ التوبة : 28 ] وذلك يوجب أن يقال : إن أحدا من أجداده ما كان من المشركين .
إذا ثبت هذا فنقول : ثبت بما ذكرنا أن والد إبراهيم - عليه السلام - ما كان مشركا ، وثبت أن آزر كان مشركا . فوجب القطع بأن والد إبراهيم كان إنسانا آخر غير آزر .
الحجة الثانية : على أن آزر ما كان والد إبراهيم - عليه السلام - . أن هذه الآية دالة على أن إبراهيم - عليه السلام - شافه آزر بالغلظة والجفاء . ومشافهة الأب بالجفاء لا تجوز ، وهذا يدل على أن آزر ما كان والد إبراهيم ، إنما قلنا : إن إبراهيم شافه آزر بالغلظة والجفاء في هذه الآية لوجهين :
الأول : أنه قرئ (وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر) بضم آزر وهذا يكون محمولا على النداء ، ونداء الأب بالاسم الأصلي من أعظم أنواع الجفاء .
الثاني : أنه قال لآزر : ( إني أراك وقومك في ضلال مبين ) وهذا من أعظم أنواع الجفاء والإيذاء . فثبت أنه - عليه السلام - شافه آزر بالجفاء ، وإنما قلنا : إن مشافهة الأب بالجفاء لا تجوز لوجوه :
الأول : قوله تعالى : ( وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا ) [ الإسراء : 23 ] وهذا عام في حق الأب الكافر والمسلم ، قال تعالى : ( فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما ) [ الإسراء : 23 ] وهذا أيضا عام .
الثاني : أنه تعالى لما بعث موسى - عليه السلام - إلى فرعون أمره بالرفق معه فقال : ( فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى ) [ طه : 44 ] والسبب فيه أن يصير ذلك رعاية لحق تربية فرعون . فههنا الوالد أولى بالرفق .
الثالث : أن الدعوة مع الرفق أكثر تأثيرا في القلب ، أما التغليظ فإنه يوجب التنفير والبعد عن القبول ؛ ولهذا المعنى قال تعالى لمحمد - عليه السلام - : ( وجادلهم بالتي هي أحسن ) [ النحل : 125 ] فكيف يليق بإبراهيم - عليه السلام - مثل هذه الخشونة مع أبيه في الدعوة ؟
الرابع : أنه تعالى حكى عن إبراهيم - عليه السلام - الحلم ، فقال : ( إن إبراهيم لحليم أواه ) [هود : 75] وكيف يليق بالرجل الحليم مثل هذا الجفاء مع الأب ؟ فثبت بهذه الوجوه آزر ما كان والد إبراهيم - عليه السلام - بل كان عما له ، فأما والده فهو أن تارح والعم قد يسمى بالأب على ما ذكرنا أن أولاد يعقوب سموا إسماعيل بكونه أبا ليعقوب مع أنه كان عما له . وقال - عليه السلام - : ردوا علي أبي يعني العم العباس .
وأيضا يحتمل أن آزر كان والد أم إبراهيم - عليه السلام - وهذا قد يقال له الأب ، والدليل عليه قوله تعالى : ( ومن ذريته داود وسليمان ) [ الأنعام : 84 ] إلى قوله : ( وعيسى ) فجعل عيسى من ذرية إبراهيم مع أن إبراهيم - عليه السلام - كان جدا لعيسى من قبل الأم . وأما أصحابنا فقد زعموا أن والد رسول الله كان كافرا وذكروا أن نص الكتاب في هذه الآية تدل على أن آزر كان كافرا وكان والد إبراهيم - عليه السلام - . وأيضا قوله تعالى : ( وما كان استغفار إبراهيم لأبيه ) [التوبة : 114] إلى قوله : ( فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه ) [ التوبة : 114 ] وذلك يدل على قولنا ، وأما قوله( وتقلبك في الساجدين ) [الشعراء : 219] قلنا : قد بينا أن هذه الآية تحتمل سائر الوجوه . قوله [ ص: 34 ] تحمل هذه الآية على الكل ، قلنا هذا محال ؛ لأن حمل اللفظ المشترك على جميع معانيه لا يجوز ، وأيضا حمل اللفظ على حقيقته ومجازه معا لا يجوز ، وأما قوله- عليه السلام - : لم أزل أنقل من أصلاب الطاهرين إلى أرحام الطاهرات فذلك محمول على أنه ما وقع في نسبه ما كان سفاحا ، أما قوله : التغليظ مع الأب لا يليق بإبراهيم - عليه السلام - . قلنا : لعله أصر على كفره فلأجل الإصرار استحق ذلك التغليط . والله أعلم .
المسألة الخامسة : قرئ "آزر" بالنصب وهو عطف بيان لقوله : ( لأبيه ) وبالضم على النداء ، وسألني واحد فقال : قرئ "آزر" بهاتين القراءتين ، وأما قوله : ( وقال موسى لأخيه هارون ) [الأعراف : 142] قرئ "هارون" بالنصب وما قرئ البتة بالضم فما الفرق ؟ قلت : القراءة بالضم محمولة على النداء والنداء بالاسم استخفاف بالمنادى . وذلك لائق بقصة إبراهيم - عليه السلام - ؛ لأنه كان مصرا على كفره فحسن أن يخاطب بالغلظة زجرا له عن ذلك القبيح ، وأما قصة موسى - عليه السلام - فقد كان موسى - عليه السلام - يستخلف هارون على قومه فما كان الاستخفاف لائقا بذلك الموضع ، فلا جرم ما كانت القراءة بالضم جائزة .
المسألة السادسة : اختلف الناس في تفسير لفظ "الإله" والأصح أنه هو المعبود ، وهذه الآية تدل على هذا القول ؛ لأنهم ما أثبتوا للأصنام إلا كونها معبودة ، ولأجل هذا قال إبراهيم لأبيه : ( أتتخذ أصناما آلهة ) وذلك يدل على أن تفسير لفظ "الإله" هو المعبود .
المسألة السابعة : اشتمل كلام إبراهيم - عليه السلام - في هذه الآية على ذكر من وجهين : الحجة العقلية على فساد قول عبدة الأصنام
الأول : أن قوله : ( أتتخذ أصناما آلهة ) يدل على أنهم كانوا يقولون بكثرة الآلهة ؛ إلا أن القول بكثرة الآلهة باطل بالدليل العقلي الذي فهم من قوله تعالى : ( لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا ) [الأنبياء : 22] .
والثاني : أن هذه الأصنام لو حصلت لها قدرة على الخير والشر لكان الصنم الواحد كافيا ، فلما لم يكن الواحد كافيا دل ذلك على أنها وإن كثرت فلا نفع فيها البتة .
المسألة الثامنة : احتج بعضهم بهذه الآية على أن . قال : لأن وجوب معرفة الله تعالى ووجوب الاشتغال بشكره معلوم بالعقل لا بالسمع إبراهيم - عليه السلام - حكم عليهم بالضلال ، ولولا الوجوب العقلي لما حكم عليهم بالضلال ؛ لأن ذلك المذهب كان متقدما على دعوة إبراهيم . ولقائل أن يقول : إنه كان ضلالا بحكم شرع الأنبياء الذين كانوا متقدمين على إبراهيم - عليه السلام - .