المسألة الثالثة : "الملكوت" هو الملك ، و "التاء" للمبالغة كالرغبوت من الرغبة والرهبوت من الرهبة .
واعلم أن في تفسيره هذه الإراءة قولين :
الأول : أن الله أراه الملكوت بالعين ، قالوا : إن الله تعالى شق له السماوات حتى رأى العرش والكرسي وإلى حيث ينتهي إليه فوقية العالم الجسماني ، وشق له الأرض إلى حيث ينتهي إلى السطح الآخر من العالم الجسماني ، ورأى ما في السماوات من العجائب والبدائع ، ورأى ما في باطن الأرض من العجائب والبدائع . وعن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس أنه قال : لما أسري
بإبراهيم إلى السماء ورأى ما في
[ ص: 36 ] السماوات وما في الأرض فأبصر عبدا على فاحشة فدعا عليه وعلى آخر بالهلاك ، فقال الله تعالى له : كف عن عبادي فهم بين حالين إما أن أجعل منهم ذرية طيبة أو يتوبون فأغفر لهم أو النار من ورائهم ، وطعن القاضي في هذه الرواية من وجوه :
الأول : أن
nindex.php?page=treesubj&link=28734_29737أهل السماء هم الملائكة المقربون وهم لا يعصون الله ، فلا يليق أن يقال : إنه لما رفع إلى السماء أبصر عبدا على فاحشة .
الثاني : أن
nindex.php?page=treesubj&link=31777_33177الأنبياء لا يدعون بهلاك المذنب إلا عن أمر الله تعالى ، وإذا أذن الله تعالى فيه لم يجز أن يمنعه من إجابة دعائه .
الثالث : أن ذلك الدعاء إما أن يكون صوابا أو خطأ ، فإن كان صوابا فلم رده في المرة الثانية ؟ وإن كان خطأ فلم قبله في المرة الأولى ؟ ثم قال : وأخبار الآحاد إذا وردت على خلاف دلائل العقول وجب التوقف فيها .
والقول الثاني : أن هذه الإراءة كانت بعين البصيرة والعقل ، لا بالبصر الظاهر والحس الظاهر . واحتج القائلون بهذا القول بوجوه :
الحجة الأولى : أن ملكوت السماوات عبارة عن ملك السماء ، والملك عبارة عن القدرة ، وقدرة الله لا ترى ، وإنما تعرف بالعقل ، وهذا كلام قاطع ، إلا أن يقال :
nindex.php?page=treesubj&link=19785_19787_29687المراد بملكوت السماوات والأرض نفس السماوات والأرض ، إلا أن على هذا التقدير يضيع لفظ الملكوت ولا يحصل منه فائدة .
والحجة الثانية : أنه تعالى ذكر هذه الإراءة في أول الآية على سبيل الإجمال وهو قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=75وكذلك نري إبراهيم ) [الأنعام : 75] ثم فسرها بعد ذلك بقوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=76فلما جن عليه الليل رأى كوكبا ) [ الأنعام : 76 ] فجرى ذكر هذا الاستدلال كالشرح والتفسير لتلك الإراءة فوجب أن يقال : إن تلك الإراءة كانت عبارة عن هذا الاستدلال .
والحجة الثالثة : أنه تعالى قال في آخر الآية : (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=83وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه ) [الأنعام : 83] والرؤية بالعين لا تصير حجة على قومه ؛ لأنهم كانوا غائبين عنها وكانوا يكذبون
إبراهيم فيها وما كان يجوز لهم تصديق
إبراهيم في تلك الدعوى إلا بدليل منفصل ومعجزة باهرة ، وإنما كانت
nindex.php?page=treesubj&link=19786_31852_29426الحجة التي أوردها إبراهيم على قومه في الاستدلال بالنجوم من الطريق الذي نطق به القرآن . فإن تلك الأدلة كانت ظاهرة لهم كما أنها كانت ظاهرة
لإبراهيم .
والحجة الرابعة : أن إراءة جميع العالم تفيد العلم الضروري بأن للعالم إلها قادرا على كل الممكنات . ومثل هذه الحالة لا يحصل للإنسان بسببها استحقاق المدح والتعظيم . ألا ترى أن الكفار في الآخرة يعرفون الله تعالى بالضرورة وليس لهم في تلك المعرفة مدح ولا ثواب . وأما
nindex.php?page=treesubj&link=28658_29622الاستدلال بصفات المخلوقات على وجود الصانع وقدرته وحكمته فذاك هو الذي يفيد المدح والتعظيم .
والحجة الخامسة : أنه تعالى كما قال في حق
إبراهيم - عليه السلام - : (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=75وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض ) فكذلك قال في حق هذه الأمة : (
nindex.php?page=tafseer&surano=41&ayano=53سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم ) [ فصلت : 53 ] فكما كانت هذه الإراءة بالبصيرة الباطنة لا بالبصر الظاهر فكذلك في حق
إبراهيم لا يبعد أن يكون الأمر كذلك .
الحجة السادسة : أنه - عليه السلام - لما تمم الاستدلال بالنجم والقمر والشمس قال بعده : (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=79إني وجهت )
[ ص: 37 ] (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=79وجهي للذي فطر السماوات والأرض ) [ الأنعام : 79 ] فحكم على السماوات والأرض بكونها مخلوقة لأجل الدليل الذي ذكره في النجم والقمر والشمس . وذلك الدليل لو لم يكن عاما في كل السماوات والأرض لكان الحكم العام بناء على دليل خاص وإنه خطأ ، فثبت أن ذلك الدليل كان عاما فكان ذكر النجم والقمر والشمس كالمثال لإراءة الملكوت . فوجب أن يكون المراد من إراءة الملكوت تعريف كيفية دلالتها بحسب تغيرها وإمكانها وحدوثها على وجود الإله العالم القادر الحكيم فتكون هذه الإراءة بالقلب لا بالعين .
الحجة السابعة : أن اليقين عبارة عن العلم المستفاد بالتأمل إذا كان مسبوقا بالشك وقوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=75وليكون من الموقنين ) كالغرض من تلك الإراءة فيصير تقدير الآية نري
إبراهيم ملكوت السماوات والأرض لأجل أن يصير من الموقنين . فلما كان اليقين هو العلم المستفاد من الدليل ، وجب أن تكون تلك الإراءة عبارة عن الاستدلال .
الحجة الثامنة : أن
nindex.php?page=treesubj&link=28658_19784جميع مخلوقات الله تعالى دالة على وجود الصانع وقدرته باعتبار واحد وهو أنها محدثة ممكنة ، وكل محدث ممكن فهو محتاج إلى الصانع . وإذا عرف الإنسان هذا الوجه الواحد فقد كفاه ذلك في الاستدلال على الصانع وكأنه بمعرفة هاتين المقدمتين قد طالع جميع الملكوت بعين عقله وسمع بأذن عقله شهادتها بالاحتياج والافتقار وهذه الرؤية رؤية باقية غير زائلة البتة . ثم إنها غير شاملة عن الله تعالى بل هي شاغلة للقلب والروح بالله . أما رؤية العين فالإنسان لا يمكنه أن يرى بالعين أشياء كثيرة دفعة واحدة على سبيل الكمال . ألا ترى أن من نظر إلى صحيفة مكتوبة فإنه لا يرى من تلك الصحيفة رؤية كاملة تامة إلا حرفا واحدا ، فإن حدق نظره إلى حرف آخر وشغل بصره به صار محروما عن إدراك الحرف الأول ، أو عن إبصاره . فثبت أن رؤية الأشياء الكثيرة دفعة واحدة غير ممكنة . وبتقدير أن تكون ممكنة هي غير باقية ، وبتقدير أن تكون باقية هي شاغلة عن الله تعالى . ألا ترى أنه تعالى مدح
محمدا - عليه الصلاة والسلام - في ترك هذه الرؤية فقال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=53&ayano=17ما زاغ البصر وما طغى ) [ النجم : 17 ] فثبت بجملة هذه الدلائل أن تلك الإراءة كانت إراءة بحسب بصيرة العقل ، لا بحسب البصر الظاهر .
فإن قيل : فرؤية القلب على هذا التفسير حاصلة لجميع الموحدين فأي فضيلة تحصل
لإبراهيم بسببها ؟
قلنا : جميع الموحدين وإن كانوا يعرفون أصل هذا الدليل إلا أن
nindex.php?page=treesubj&link=28658_19784الاطلاع على آثار حكمة الله تعالى في كل واحد من مخلوقات هذا العالم بحسب أجناسها وأنواعها وأصنافها وأشخاصها وأحوالها مما لا يحصل إلا للأكابر من الأنبياء - عليهم السلام - ، ولهذا المعنى
كان رسولنا - عليه الصلاة والسلام - يقول في دعائه : "اللهم أرنا الأشياء كما هي" فزال هذا الإشكال . والله أعلم .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : "الْمَلَكُوتُ" هُوَ الْمُلْكُ ، وَ "التَّاءُ" لِلْمُبَالَغَةِ كَالرَّغَبُوتِ مِنَ الرَّغْبَةِ وَالرَّهَبُوتِ مِنَ الرَّهْبَةِ .
وَاعْلَمْ أَنَّ فِي تَفْسِيرِهِ هَذِهِ الْإِرَاءَةَ قَوْلَيْنِ :
الْأَوَّلُ : أَنَّ اللَّهَ أَرَاهُ الْمَلَكُوتَ بِالْعَيْنِ ، قَالُوا : إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى شَقَّ لَهُ السَّمَاوَاتِ حَتَّى رَأَى الْعَرْشَ وَالْكُرْسِيَّ وَإِلَى حَيْثُ يَنْتَهِي إِلَيْهِ فَوْقِيَّةُ الْعَالَمِ الْجُسْمَانِيِّ ، وَشَقَّ لَهُ الْأَرْضَ إِلَى حَيْثُ يَنْتَهِي إِلَى السَّطْحِ الْآخَرِ مِنَ الْعَالَمِ الْجُسْمَانِيِّ ، وَرَأَى مَا فِي السَّمَاوَاتِ مِنَ الْعَجَائِبِ وَالْبَدَائِعِ ، وَرَأَى مَا فِي بَاطِنِ الْأَرْضِ مِنَ الْعَجَائِبِ وَالْبَدَائِعِ . وَعَنِ
nindex.php?page=showalam&ids=11ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ : لَمَّا أُسْرِيَ
بِإِبْرَاهِيمَ إِلَى السَّمَاءِ وَرَأَى مَا فِي
[ ص: 36 ] السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ فَأَبْصَرَ عَبْدًا عَلَى فَاحِشَةٍ فَدَعَا عَلَيْهِ وَعَلَى آخَرَ بِالْهَلَاكِ ، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ : كُفَّ عَنْ عِبَادِي فَهُمْ بَيْنَ حَالَيْنِ إِمَّا أَنْ أَجْعَلَ مِنْهُمْ ذَرِّيَّةً طَيِّبَةً أَوْ يَتُوبُونَ فَأَغْفِرَ لَهُمْ أَوِ النَّارُ مِنْ وَرَائِهِمْ ، وَطَعَنَ الْقَاضِي فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ مِنْ وُجُوهٍ :
الْأَوَّلُ : أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=28734_29737أَهْلَ السَّمَاءِ هُمُ الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَهُمْ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ ، فَلَا يَلِيقُ أَنْ يُقَالَ : إِنَّهُ لَمَّا رُفِعَ إِلَى السَّمَاءِ أَبْصَرَ عَبْدًا عَلَى فَاحِشَةٍ .
الثَّانِي : أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=31777_33177الْأَنْبِيَاءَ لَا يَدْعُونَ بِهَلَاكِ الْمُذْنِبِ إِلَّا عَنْ أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى ، وَإِذَا أَذِنَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَمْنَعَهُ مِنْ إِجَابَةِ دُعَائِهِ .
الثَّالِثُ : أَنَّ ذَلِكَ الدُّعَاءَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ صَوَابًا أَوْ خَطَأً ، فَإِنْ كَانَ صَوَابًا فَلِمَ رَدَّهُ فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ ؟ وَإِنْ كَانَ خَطَأً فَلِمَ قَبِلَهُ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى ؟ ثُمَّ قَالَ : وَأَخْبَارُ الْآحَادِ إِذَا وَرَدَتْ عَلَى خِلَافِ دَلَائِلِ الْعُقُولِ وَجَبَ التَّوَقُّفُ فِيهَا .
وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّ هَذِهِ الْإِرَاءَةَ كَانَتْ بِعَيْنِ الْبَصِيرَةِ وَالْعَقْلِ ، لَا بِالْبَصَرِ الظَّاهِرِ وَالْحِسِّ الظَّاهِرِ . وَاحْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِهَذَا الْقَوْلِ بِوُجُوهٍ :
الْحُجَّةُ الْأُولَى : أَنَّ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ عِبَارَةٌ عَنْ مُلْكِ السَّمَاءِ ، وَالْمُلْكُ عِبَارَةٌ عَنِ الْقُدْرَةِ ، وَقُدْرَةُ اللَّهِ لَا تُرَى ، وَإِنَّمَا تُعْرَفُ بِالْعَقْلِ ، وَهَذَا كَلَامٌ قَاطِعٌ ، إِلَّا أَنْ يُقَالَ :
nindex.php?page=treesubj&link=19785_19787_29687الْمُرَادُ بِمَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ نَفْسُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ، إِلَّا أَنَّ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَضِيعُ لَفْظُ الْمَلَكُوتِ وَلَا يَحْصُلُ مِنْهُ فَائِدَةٌ .
وَالْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ : أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ هَذِهِ الْإِرَاءَةَ فِي أَوَّلِ الْآيَةِ عَلَى سَبِيلِ الْإِجْمَالِ وَهُوَ قَوْلُهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=75وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ ) [الْأَنْعَامِ : 75] ثُمَّ فَسَّرَهَا بَعْدَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=76فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا ) [ الْأَنْعَامِ : 76 ] فَجَرَى ذِكْرُ هَذَا الِاسْتِدْلَالِ كَالشَّرْحِ وَالتَّفْسِيرِ لِتِلْكَ الْإِرَاءَةِ فَوَجَبَ أَنْ يُقَالَ : إِنَّ تِلْكَ الْإِرَاءَةَ كَانَتْ عِبَارَةً عَنْ هَذَا الِاسْتِدْلَالِ .
وَالْحُجَّةُ الثَّالِثَةُ : أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي آخِرِ الْآيَةِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=83وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ ) [الْأَنْعَامِ : 83] وَالرُّؤْيَةُ بِالْعَيْنِ لَا تَصِيرُ حُجَّةً عَلَى قَوْمِهِ ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا غَائِبِينَ عَنْهَا وَكَانُوا يُكَذِّبُونَ
إِبْرَاهِيمَ فِيهَا وَمَا كَانَ يَجُوزُ لَهُمْ تَصْدِيقُ
إِبْرَاهِيمَ فِي تِلْكَ الدَّعْوَى إِلَّا بِدَلِيلٍ مُنْفَصِلٍ وَمُعْجِزَةٍ بَاهِرَةٍ ، وَإِنَّمَا كَانَتِ
nindex.php?page=treesubj&link=19786_31852_29426الْحُجَّةُ الَّتِي أَوْرَدَهَا إِبْرَاهِيمُ عَلَى قَوْمِهِ فِي الِاسْتِدْلَالِ بِالنُّجُومِ مِنَ الطَّرِيقِ الَّذِي نَطَقَ بِهِ الْقُرْآنُ . فَإِنَّ تِلْكَ الْأَدِلَّةَ كَانَتْ ظَاهِرَةً لَهُمْ كَمَا أَنَّهَا كَانَتْ ظَاهِرَةً
لِإِبْرَاهِيمَ .
وَالْحُجَّةُ الرَّابِعَةُ : أَنَّ إِرَاءَةَ جَمِيعِ الْعَالِمِ تُفِيدُ الْعِلْمَ الضَّرُورِيَّ بِأَنَّ لِلْعَالَمِ إِلَهًا قَادِرًا عَلَى كُلِّ الْمُمْكِنَاتِ . وَمِثْلُ هَذِهِ الْحَالَةِ لَا يَحْصُلُ لِلْإِنْسَانِ بِسَبَبِهَا اسْتِحْقَاقُ الْمَدْحِ وَالتَّعْظِيمِ . أَلَا تَرَى أَنَّ الْكُفَّارَ فِي الْآخِرَةِ يَعْرِفُونَ اللَّهَ تَعَالَى بِالضَّرُورَةِ وَلَيْسَ لَهُمْ فِي تِلْكَ الْمَعْرِفَةِ مَدْحٌ وَلَا ثَوَابٌ . وَأَمَّا
nindex.php?page=treesubj&link=28658_29622الِاسْتِدْلَالُ بِصِفَاتِ الْمَخْلُوقَاتِ عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ وَقُدْرَتِهِ وَحِكْمَتِهِ فَذَاكَ هُوَ الَّذِي يُفِيدُ الْمَدْحَ وَالتَّعْظِيمَ .
وَالْحُجَّةُ الْخَامِسَةُ : أَنَّهُ تَعَالَى كَمَا قَالَ فِي حَقِّ
إِبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - : (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=75وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ) فَكَذَلِكَ قَالَ فِي حَقِّ هَذِهِ الْأُمَّةِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=41&ayano=53سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ ) [ فُصِّلَتْ : 53 ] فَكَمَا كَانَتْ هَذِهِ الْإِرَاءَةُ بِالْبَصِيرَةِ الْبَاطِنَةِ لَا بِالْبَصَرِ الظَّاهِرِ فَكَذَلِكَ فِي حَقِّ
إِبْرَاهِيمَ لَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ .
الْحُجَّةُ السَّادِسَةُ : أَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَمَّا تَمَّمَ الِاسْتِدْلَالَ بِالنَّجْمِ وَالْقَمَرِ وَالشَّمْسِ قَالَ بَعْدَهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=79إِنِّي وَجَّهْتُ )
[ ص: 37 ] (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=79وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ ) [ الْأَنْعَامِ : 79 ] فَحُكِمَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بِكَوْنِهَا مَخْلُوقَةً لِأَجْلِ الدَّلِيلِ الَّذِي ذَكَرَهُ فِي النَّجْمِ وَالْقَمَرِ وَالشَّمْسِ . وَذَلِكَ الدَّلِيلُ لَوْ لَمْ يَكُنْ عَامًّا فِي كُلِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَكَانَ الْحُكْمُ الْعَامُّ بِنَاءً عَلَى دَلِيلٍ خَاصٍّ وَإِنَّهُ خَطَأٌ ، فَثَبَتَ أَنَّ ذَلِكَ الدَّلِيلَ كَانَ عَامًّا فَكَانَ ذِكْرُ النَّجْمِ وَالْقَمَرِ وَالشَّمْسِ كَالْمِثَالِ لِإِرَاءَةِ الْمَلَكُوتِ . فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ إِرَاءَةِ الْمَلَكُوتِ تَعْرِيفُ كَيْفِيَّةِ دَلَالَتِهَا بِحَسَبِ تَغَيُّرِهَا وَإِمْكَانِهَا وَحُدُوثِهَا عَلَى وُجُودِ الْإِلَهِ الْعَالِمِ الْقَادِرِ الْحَكِيمِ فَتَكُونُ هَذِهِ الْإِرَاءَةُ بِالْقَلْبِ لَا بِالْعَيْنِ .
الْحُجَّةُ السَّابِعَةُ : أَنَّ الْيَقِينَ عِبَارَةٌ عَنِ الْعِلْمِ الْمُسْتَفَادِ بِالتَّأَمُّلِ إِذَا كَانَ مَسْبُوقًا بِالشَّكِّ وَقَوْلُهُ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=75وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ ) كَالْغَرَضِ مِنْ تِلْكَ الْإِرَاءَةِ فَيَصِيرُ تَقْدِيرُ الْآيَةِ نُرِي
إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لِأَجْلِ أَنْ يَصِيرَ مِنَ الْمُوقِنِينَ . فَلَمَّا كَانَ الْيَقِينُ هُوَ الْعِلْمُ الْمُسْتَفَادُ مِنَ الدَّلِيلِ ، وَجَبَ أَنْ تَكُونَ تِلْكَ الْإِرَاءَةُ عِبَارَةً عَنِ الِاسْتِدْلَالِ .
الْحُجَّةُ الثَّامِنَةُ : أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=28658_19784جَمِيعَ مَخْلُوقَاتِ اللَّهِ تَعَالَى دَالَّةٌ عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ وَقُدْرَتِهِ بِاعْتِبَارٍ وَاحِدٍ وَهُوَ أَنَّهَا مُحْدَثَةٌ مُمْكِنَةٌ ، وَكُلُّ مُحْدَثٍ مُمْكِنٍ فَهُوَ مُحْتَاجٌ إِلَى الصَّانِعِ . وَإِذَا عَرَفَ الْإِنْسَانُ هَذَا الْوَجْهَ الْوَاحِدَ فَقَدْ كَفَاهُ ذَلِكَ فِي الِاسْتِدْلَالِ عَلَى الصَّانِعِ وَكَأَنَّهُ بِمَعْرِفَةِ هَاتَيْنِ الْمُقَدِّمَتَيْنِ قَدْ طَالَعَ جَمِيعَ الْمَلَكُوتِ بِعَيْنِ عَقْلِهِ وَسَمِعَ بِأُذُنِ عَقْلِهِ شَهَادَتَهَا بِالِاحْتِيَاجِ وَالِافْتِقَارِ وَهَذِهِ الرُّؤْيَةُ رُؤْيَةٌ بَاقِيَةٌ غَيْرُ زَائِلَةٍ الْبَتَّةَ . ثُمَّ إِنَّهَا غَيْرُ شَامِلَةٍ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى بَلْ هِيَ شَاغِلَةٌ لِلْقَلْبِ وَالرُّوحِ بِاللَّهِ . أَمَّا رُؤْيَةُ الْعَيْنِ فَالْإِنْسَانُ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَرَى بِالْعَيْنِ أَشْيَاءَ كَثِيرَةً دُفْعَةً وَاحِدَةً عَلَى سَبِيلِ الْكَمَالِ . أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ نَظَرَ إِلَى صَحِيفَةٍ مَكْتُوبَةٍ فَإِنَّهُ لَا يَرَى مِنْ تِلْكَ الصَّحِيفَةِ رُؤْيَةً كَامِلَةً تَامَّةً إِلَّا حَرْفًا وَاحِدًا ، فَإِنْ حَدَّقَ نَظَرَهُ إِلَى حَرْفٍ آخَرَ وَشَغَلَ بَصَرَهُ بِهِ صَارَ مَحْرُومًا عَنْ إِدْرَاكِ الْحَرْفِ الْأَوَّلِ ، أَوْ عَنْ إِبْصَارِهِ . فَثَبَتَ أَنَّ رُؤْيَةَ الْأَشْيَاءِ الْكَثِيرَةِ دُفْعَةً وَاحِدَةً غَيْرُ مُمْكِنَةٍ . وَبِتَقْدِيرِ أَنْ تَكُونَ مُمْكِنَةً هِيَ غَيْرُ بَاقِيَةٍ ، وَبِتَقْدِيرِ أَنْ تَكُونَ بَاقِيَةً هِيَ شَاغِلَةٌ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى . أَلَا تَرَى أَنَّهُ تَعَالَى مَدَحَ
مُحَمَّدًا - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِي تَرْكِ هَذِهِ الرُّؤْيَةِ فَقَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=53&ayano=17مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى ) [ النَّجْمِ : 17 ] فَثَبَتَ بِجُمْلَةِ هَذِهِ الدَّلَائِلِ أَنَّ تِلْكَ الْإِرَاءَةَ كَانَتْ إِرَاءَةً بِحَسَبِ بَصِيرَةِ الْعَقْلِ ، لَا بِحَسَبِ الْبَصَرِ الظَّاهِرِ .
فَإِنْ قِيلَ : فَرُؤْيَةُ الْقَلْبِ عَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ حَاصِلَةٌ لِجَمِيعِ الْمُوَحِّدِينَ فَأَيُّ فَضِيلَةٍ تَحْصُلُ
لِإِبْرَاهِيمَ بِسَبَبِهَا ؟
قُلْنَا : جَمِيعُ الْمُوَحِّدِينَ وَإِنْ كَانُوا يَعْرِفُونَ أَصْلَ هَذَا الدَّلِيلِ إِلَّا أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=28658_19784الِاطِّلَاعَ عَلَى آثَارِ حِكْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ مَخْلُوقَاتِ هَذَا الْعَالَمِ بِحَسَبِ أَجْنَاسِهَا وَأَنْوَاعِهَا وَأَصْنَافِهَا وَأَشْخَاصِهَا وَأَحْوَالِهَا مِمَّا لَا يَحْصُلُ إِلَّا لِلْأَكَابِرِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ - عَلَيْهِمُ السَّلَامُ - ، وَلِهَذَا الْمَعْنَى
كَانَ رَسُولُنَا - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - يَقُولُ فِي دُعَائِهِ : "اللَّهُمَّ أَرِنَا الْأَشْيَاءَ كَمَا هِيَ" فَزَالَ هَذَا الْإِشْكَالُ . وَاللَّهُ أَعْلَمُ .