أما قوله تعالى : ( ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت ) فاعلم أن أول الآية ، وهو قوله : ( ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا ) يفيد التخويف العظيم على سبيل الإجمال ، وقوله بعد ذلك : ( ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت ) كالتفصيل لذلك المجمل ، والمراد بالظالمين الذين ذكرهم ، جمع غمرة ، وهي شدة الموت ، وغمرة كل شيء كثرته ومعظمه ، ومنه غمرة الماء ، وغمرة الحرب ، ويقال غمره الشيء إذا علاه وغطاه . وقال وغمرات الموت الزجاج : يقال لكل من كان في شيء كثير قد غمره ذلك ، وغمره الدين إذا كثر [ ص: 70 ] عليه ، هذا هو الأصل ، ثم يقال للشدائد والمكاره : الغمرات ، وجواب " لو " محذوف ، أي لرأيت أمرا عظيما ، ( والملائكة باسطو أيديهم ) قال : ملائكة العذاب باسطو أيديهم يضربونهم ويعذبونهم ، كما يقال بسط إليه يده بالمكروه ، ( ابن عباس أخرجوا أنفسكم ) . هاهنا محذوف ، والتقدير : يقولون أخرجوا أنفسكم ، وفيه مسألتان :
المسألة الأولى : في الآية سؤال : وهو أنه لا قدرة لهم على إخراج أرواحهم من أجسادهم ، فما الفائدة في هذا الكلام ؟ .
فنقول : في تفسير هذه الكلمة وجوه :
الوجه الأول : ولو ترى الظالمين إذا صاروا إلى غمرات الموت في الآخرة فأدخلوا جهنم ، فغمرات الموت عبارة عما يصيبهم هناك من أنواع الشدائد والتعذيبات ، والملائكة باسطو أيديهم عليهم بالعذاب يبكتونهم ، ويقولون لهم : أخرجوا أنفسكم من هذا العذاب الشديد إن قدرتم .
الوجه الثاني : أن يكون المعنى : ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت عند نزول الموت بهم في الدنيا والملائكة باسطو أيديهم لقبض أرواحهم ، يقولون لهم : أخرجوا أنفسكم من هذه الشدائد ، وخلصوها من هذه الآفات والآلام .
والوجه الثالث : أن قوله : ( أخرجوا أنفسكم ) أي أخرجوها إلينا من أجسادكم ، وهذه عبارة عن العنف والتشديد في إزهاق الروح من غير تنفيس وإمهال ، وأنهم يفعلون بهم فعل الغريم الملازم الملح يبسط يده إلى من عليه الحق ويعنف عليه في المطالبة ولا يمهله ، ويقول له : أخرج إلي ما لي عليك الساعة ولا أبرح من مكاني حتى أنزعه من أحداقك .
والوجه الرابع : أن هذه اللفظة كناية عن شدة حالهم ، وأنهم بلغوا في البلاء والشدة إلى حيث تولى بنفسه إزهاق روحه .
والوجه الخامس : أن قوله : ( أخرجوا أنفسكم ) ليس بأمر ، بل هو وعيد وتقريع ، كقول القائل : امض الآن لترى ما يحل بك . قال المفسرون : إن نفس المؤمن تنشط في الخروج للقاء ربه ، ونفس الكافر تكره ذلك فيشق عليها الخروج ؛ لأنها تصير إلى أشد العذاب ، كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أراد الله لقاءه ، من أراد لقاء الله كره الله لقاءه ومن كره لقاء الله وذلك عند نزع الروح ، فهؤلاء الكفار تكرههم الملائكة على نزع الروح .
المسألة الثانية : الذين قالوا : إن النفس الإنسانية شيء غير هذا الهيكل ، وغير هذا الجسد ، احتجوا عليه بهذه الآية ، وقالوا : لا شك أن قوله : ( أخرجوا أنفسكم ) معناه : أخرجوا أنفسكم عن أجسادكم ، وهذا يدل على أن النفس مغايرة للأجساد ، إلا أنا لو حملنا الآية على الوجهين الأولين من التأويلات الخمسة المذكورة ، لم يتم هذا الاستدلال .
ثم قال تعالى : ( اليوم تجزون عذاب الهون ) قال الزجاج : أي العذاب الذي يقع به الهوان الشديد . قال تعالى : ( عذاب الهون أيمسكه على هون أم يدسه في التراب ) [ النحل : 59 ] والمراد منه أنه تعالى جمع هناك بين الإيلام وبين الإهانة ، فإن الثواب شرطه أن يكون منفعة مقرونة بالتعظيم ، فكذلك العقاب شرطه أن [ ص: 71 ] يكون مضرة مقرونة بالإهانة . قال بعضهم : الهون هو الهوان ، والهون هو الرفق والدعة . قال تعالى : ( وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا ) [ الفرقان : 63 ] وقوله : ( بما كنتم تقولون على الله غير الحق وكنتم عن آياته تستكبرون ) وذلك يدل أن هذا العذاب الشديد إنما حصل بسبب مجموع الأمرين ؛ الافتراء على الله ، والتكبر على آيات الله . وأقول : هذان النوعان من الآفات والبلاء ترى أكثر المتوسمين بالعلم متوغلين فيه مواظبين عليه نعوذ بالله منه ، ومن آثاره ونتائجه .
وذكر الواحدي : أن المراد بقوله : ( وكنتم عن آياته تستكبرون ) أي لا تصلون له ، قال عليه السلام : من فقد برئ من الكبر سجد لله سجدة بنية صادقة .