[ ص: 86 ]
( وهو الذي أنزل من السماء ماء فأخرجنا به نبات كل شيء فأخرجنا منه خضرا نخرج منه حبا متراكبا ومن النخل من طلعها قنوان دانية وجنات من أعناب والزيتون والرمان مشتبها وغير متشابه انظروا إلى ثمره إذا أثمر وينعه إن في ذلكم لآيات لقوم يؤمنون ) .
قوله تعالى : ( وهو الذي أنزل من السماء ماء فأخرجنا به نبات كل شيء فأخرجنا منه خضرا نخرج منه حبا متراكبا ومن النخل من طلعها قنوان دانية وجنات من أعناب والزيتون والرمان مشتبها وغير متشابه انظروا إلى ثمره إذا أثمر وينعه إن في ذلكم لآيات لقوم يؤمنون ) .
اعلم أن هذا النوع الخامس ، ووجوه إحسانه إلى خلقه . من الدلائل الدالة على كمال قدرة الله تعالى وعلمه وحكمته ورحمته
واعلم أن هذه الدلائل كما أنها دلائل فهي أيضا نعم بالغة ، وإحسانات كاملة ، والكلام إذا كان دليلا من بعض الوجوه ، وكان إنعاما وإحسانا من سائر الوجوه ، كان تأثيره في القلب عظيما ، وعند هذا يظهر أن المشتغل بدعوة الخلق إلى طريق الحق لا ينبغي أن يعدل عن هذه الطريقة ، وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : ظاهر قوله تعالى : ( وهو الذي أنزل من السماء ماء ) يقتضي من السماء ، وعند هذا اختلف الناس ، فقال نزول المطر في " تفسيره " : إنه تعالى ينزل الماء من السماء إلى السحاب ، ومن السحاب إلى الأرض ؛ قال : لأن ظاهر النص يقتضي نزول المطر من السماء ، والعدول عن الظاهر إلى التأويل إنما يحتاج إليه عند قيام الدليل على أن إجراء اللفظ على ظاهره غير ممكن ، وفي هذا الموضع لم يقم دليل على امتناع نزول المطر من السماء ، فوجب إجراء اللفظ على ظاهره . أبو علي الجبائي
وأما قول من يقول : إن البخارات الكثيرة تجتمع في باطن الأرض ، ثم تصعد وترتفع إلى الهواء ، فينعقد الغيم منها ويتقاطر ، وذلك هو المطر ، فقد احتج الجبائي على فساده من وجوه :
الأول : أن البرد قد يوجد في وقت الحر ، بل في صميم الصيف ، ونجد المطر في أبرد وقت ينزل غير جامد ، وذلك يبطل قولهم .
ولقائل أن يقول : إن القوم يجيبون عنه فيقولون : لا شك أن البخار أجزاء مائية وطبيعتها البرد ، ففي وقت الصيف يستولي الحر على ظاهر السحاب ، فيهرب البرد إلى باطنه ، فيقوى البرد هناك بسبب الاجتماع ، فيحدث البرد ، وأما في وقت برد الهواء يستولي البرد على ظاهر السحاب ، فلا يقوى البرد في باطنه ، فلا جرم لا ينعقد جمدا بل ينزل ماء ، هذا ما قالوه .
ويمكن أن يجاب عنه بأن الطبقة العالية من الهواء باردة جدا عندكم ، فإذا كان اليوم يوما باردا شديد البرد في صميم الشتاء ، فتلك الطبقة باردة جدا ، والهواء المحيط بالأرض أيضا بارد جدا ، فوجب أن يشتد البرد ، وأن لا يحدث المطر في الشتاء البتة ، وحيث شاهدنا أنه قد يحدث فسد قولكم ، والله أعلم .
الحجة الثانية : مما ذكره الجبائي أنه قال : إن البخارات إذا ارتفعت وتصاعدت تفرقت ، وإذا تفرقت لم [ ص: 87 ] يتولد منها قطرات الماء ، بل البخار إنما يجتمع إذا اتصل بسقف متصل أملس كسقوف الحمامات المزججة ، أما إذا لم يكن كذلك لم يسل منه ماء كثير ، فإذا تصاعدت البخارات في الهواء ، وليس فوقها سطح أملس متصل به تلك البخارات ، وجب أن لا يحصل منها شيء من الماء . ولقائل أن يقول : القوم يجيبون عنه : بأن هذه البخارات إذا تصاعدت وتفرقت ، فإذا وصلت عند صعودها وتفرقها إلى الطبقة الباردة من الهواء بردت ، والبرد يوجب الثقل والنزول ، فبسبب قوة ذلك البرد عادت من الصعود إلى النزول ، والعالم كروي الشكل ، فلما رجعت من الصعود إلى النزول ، فقد رجعت من فضاء المحيط إلى ضيق المركز ، فتلك الذرات بهذا السبب تلاصقت وتواصلت ، فحصل من اتصال بعض تلك الذرات بعض قطرات الأمطار .
الحجة الثالثة : ما ذكره الجبائي قال : لو كان تولد المطر من صعود البخارات ، فالبخارات دائمة الارتفاع من البحار ، فوجب أن يدوم هناك نزول المطر ، وحيث لم يكن الأمر كذلك ، علمنا فساد قولهم ، قال : فثبت بهذه الوجوه أنه ليس تولد المطر من بخار الأرض ، ثم قال : والقوم إنما احتاجوا إلى هذا القول ؛ لأنهم اعتقدوا أن الأجسام قديمة ، وإذا كانت قديمة امتنع دخول الزيادة والنقصان فيها ، وحينئذ لا معنى لحدوث الحوادث إلا اتصاف تلك الذرات بصفة بعد أن كانت موصوفة بصفات أخرى ، فلهذا السبب احتالوا في تكوين كل شيء عن مادة معينة ، وأما المسلمون فلما اعتقدوا أن الأجسام محدثة ، وأن خالق العالم فاعل مختار قادر على خلق الأجسام كيف شاء وأراد ، فعند هذا لا حاجة إلى استخراج هذه التكلفات ، فثبت أن ظاهر القرآن يدل في هذه الآية على أن الماء إنما ينزل من السماء ، ولا دليل على امتناع هذا الظاهر ، فوجب القول بحمله على ظاهره ، ومما يؤكد ما قلناه أن جميع الآيات ناطقة بنزول المطر من السماء ، قال تعالى : ( وأنزلنا من السماء ماء طهورا ) [ الفرقان : 48 ] وقال : ( وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به ) [ الأنفال : 11 ] وقال : ( وينزل من السماء من جبال فيها من برد ) [ النور : 43 ] فثبت أن الحق أنه تعالى ينزل المطر من السماء ؛ بمعنى أنه يخلق هذه الأجسام في السماء ، ثم ينزلها إلى السحاب ، ثم من السحاب إلى الأرض .
والقول الثاني : المراد إنزال المطر من جانب السماء ماء .
والقول الثالث : أنزل من السحاب ماء ، وسمى الله تعالى السحاب سماء ؛ لأن العرب تسمي كل ما فوقك سماء كسماء البيت ، فهذا ما قيل في هذا الباب .
المسألة الثانية : نقل الواحدي في " البسيط " عن : يريد بالماء هاهنا المطر ابن عباس ، والفلاسفة يحملون ذلك الملك على الطبيعة الحالة في تلك الجسمية الموجبة لذلك النزول ، فأما أن يكون معه ملك من ملائكة السماوات ، فالقول به مشكل ؛ والله أعلم . ولا ينزل نقطة من المطر إلا ومعها ملك
المسألة الثالثة قوله : ( فأخرجنا به نبات كل شيء ) فيه أبحاث :
البحث الأول : ظاهر قوله : ( فأخرجنا به نبات كل شيء ) يدل على أنه تعالى إنما أخرج النبات بواسطة الماء ، وذلك يوجب القول بالطبع ، والمتكلمون ينكرونه ، وقد بالغنا في تحقيق هذه المسألة في سورة البقرة في تفسير قوله تعالى : ( وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم ) [ البقرة : 22 ] فلا فائدة في الإعادة .
[ ص: 88 ]
البحث الثاني : قال الفراء : قوله : ( فأخرجنا به نبات كل شيء ) ظاهره يقتضي أن يكون لكل شيء نبات . وليس الأمر كذلك ، فكان المراد فأخرجنا به نبات كل شيء له نبات ، فإذا كان كذلك ، فالذي لا نبات له لا يكون داخلا فيه .
البحث الثالث : قوله : ( فأخرجنا به ) بعد قوله : ( أنزل ) يسمى التفاتا ، ويعد ذلك من الفصاحة .
واعلم أن أصحاب العربية ادعوا أن ذلك يعد من الفصاحة ، وما بينوا أنه من أي الوجوه يعد من هذا الباب ؟ وأما نحن فقد أطنبنا فيه في تفسير قوله تعالى : ( حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة ) [ يونس : 22 ] فلا فائدة في الإعادة .
والبحث الرابع : قوله : ( فأخرجنا ) صيغة الجمع . والله واحد فرد لا شريك له ، إلا أن الملك العظيم إذا كنى عن نفسه ، فإنما يكني بصيغة الجمع ، فكذلك هاهنا . ونظيره قوله : ( إنا أنزلناه ) ، ( ( إنا أرسلنا نوحا ) ، ( إنا نحن نزلنا الذكر ) .