( وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم    ) 
قوله تعالى : ( وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم    ) 
وفيه مسائل : 
المسألة الأولى : قرأ عاصم  وحمزة  والكسائي    : ( وتمت كلمة ربك    ) بغير ألف على الواحد ، والباقون ( كلمات ) على الجمع ، قال أهل المعاني : الكلمة والكلمات ، معناهما ما جاء من وعد ووعيد وثواب وعقاب ، فلا تبديل فيه ولا تغيير له كما قال : ( ما يبدل القول لدي    ) [ ق : 29 ] فمن قرأ " كلمات " بالجمع قال : لأن معناه الجمع ، فوجب أن يجمع في اللفظ ، ومن قرأ على الوحدة فلأنهم قالوا : الكلمة قد يراد بها الكلمات الكثيرة إذا كانت مضبوطة بضابط واحد ، كقولهم : قال زهير  في كلمته : يعني قصيدته ، وقال قس في كلمته ، أي خطبته ، فكذلك مجموع القرآن كلمة واحدة في كونه حقا وصدقا ومعجزا . 
المسألة الثانية : أن تعلق هذه الآية بما قبلها أنه تعالى بين في الآية السابقة أن القرآن معجز ، فذكر في هذه الآية أنه تمت كلمة ربك ، والمراد بالكلمة القرآن أي تم القرآن في كونه معجزا دالا على صدق محمد  عليه السلام ، وقوله : ( صدقا وعدلا    ) أي تمت تماما صدقا وعدلا ، وقال أبو علي الفارسي    : ( صدقا وعدلا    ) مصدران ينصبان على الحال من الكلمة تقديره: صادقة عادلة ، فهذا وجه تعلق هذه الآية بما قبلها . 
المسألة الثالثة : اعلم أن هذه الآية تدل على أن كلمة الله تعالى موصوفة بصفات كثيرة    . 
فالصفة الأولى : كونها تامة وإليه الإشارة بقوله : ( وتمت كلمة ربك    ) وفي تفسير هذا التمام وجوه : 
الأول : ما ذكرنا أنها كافية وافية بكونها معجزة دالة على صدق محمد  عليه الصلاة والسلام . 
والثاني : أنها كافية في بيان ما يحتاج المكلفون إليه إلى قيام القيامة عملا وعلما . 
والثالث : أن حكم الله تعالى هو الذي حصل في الأزل ، ولا يحدث بعد ذلك شيء ، فذلك الذي حصل في الأزل هو التمام ، والزيادة عليه ممتنعة ، وهذا الوجه هو المراد من قوله صلى الله عليه وسلم : " جف القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة   " . 
الصفة الثانية : من صفات كلمة الله كونها صدقا ، والدليل عليه أن الكذب نقص والنقص على الله محال ، ولا يجوز إثبات أن الكذب على الله محال بالدلائل السمعية ؛ لأن صحة الدلائل السمعية موقوفة على أن الكذب على الله محال ، فلو أثبتنا امتناع الكذب على الله بالدلائل السمعية لزم الدور وهو باطل . واعلم [ ص: 132 ] أن هذا الكلام كما يدل على أن الخلف في وعد الله تعالى محال . فهو أيضا يدل على أن الخلف في وعيده محال بخلاف ما قاله الواحدي  في تفسير قوله تعالى : ( ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها    ) أن الخلف في وعيد الله جائز ، وذلك لأن وعد الله ووعيده كلمة الله ، فلما دلت هذه الآية على أن كلمة الله يجب كونها موصوفة بالصدق على أن الخلف كما أنه ممتنع في الوعد فكذلك ممتنع في الوعيد . 
الصفة الثالثة من صفات كلمات الله : كونها عدلا وفيه وجهان : 
الأول : أن كل ما حصل في القرآن نوعان ، الخبر والتكليف . أما الخبر فالمراد كل ما أخبر الله عن وجوده أو عن عدمه ويدخل فيه الخبر عن وجود ذات الله تعالى وعن حصول صفاته أعني كونه تعالى عالما قادرا سميعا بصيرا ، ويدخل فيه الإخبار عن صفات التقديس والتنزيه كقوله : ( لم يلد ولم يولد    ) [ الإخلاص : 3 ] وكقوله : ( لا تأخذه سنة ولا نوم    ) [ البقرة : 255 ] ويدخل فيه الخبر عن أقسام أفعال الله ، وكيفية تدبيره لملكوت السماوات والأرض وعالمي الأرواح والأجسام ، ويدخل فيه كل أمر عن أحكام الله تعالى في الوعد والوعيد والثواب والعقاب ، ويدخل فيه الخبر عن أحوال المتقدمين ، والخبر عن الغيوب المستقبلة ، فكل هذه الأقسام داخلة تحت الخبر ، وأما التكليف فيدخل فيه كل أمر ونهي توجه منه سبحانه على عبده سواء كان ذلك العبد ملكا أو بشرا أو جنيا أو شيطانا ، وسواء كان ذلك في شرعنا أو في شرائع الأنبياء عليهم السلام المتقدمين ، أو في شرائع الملائكة المقربين الذين هم سكان السماوات والجنة والنار والعرش وما وراءه مما لا يعلم أحوالهم إلا الله تعالى . 
وإذا عرفت انحصار مباحث القرآن في هذين القسمين فنقول : قال تعالى : ( وتمت كلمة ربك صدقا    ) إن كان من باب الخبر " وعدلا " إن كان من باب التكاليف ، وهذا ضبط في غاية الحسن . 
والقول الثاني : في تفسير قوله : " وعدلا " : أن كل ما أخبر الله تعالى عنه من وعد ووعيد وثواب وعقاب فهو صدق؛ لأنه لا بد وأن يكون واقعا ، وهو بعد وقوعه عدل لأن أفعاله منزهة عن أن تكون موصوفة بصفة الظلمية . 
الصفة الرابعة : من صفات كلمة الله قوله : ( لا مبدل لكلماته    ) وفيه وجوه : 
الأول : أنا بينا أن المراد من قوله : ( وتمت كلمة ربك    ) أنها تامة في كونها معجزة دالة على صدق محمد  صلى الله عليه وسلم . 
ثم قال : ( لا مبدل لكلماته    ) والمعنى أن هؤلاء الكفار يلقون الشبهات في كونها دالة على صدق محمد  عليه الصلاة والسلام إلا أن تلك الشبهات لا تأثير لها في هذه الدلائل التي لا تقبل التبديل البتة ؛ لأن تلك الدلالة ظاهرة باقية جلية قوية لا تزول بسبب ترهات الكفار وشبهات أولئك الجهال . 
والوجه الثاني : أن يكون المراد أنها تبقى مصونة عن التحريف والتغيير كما قال تعالى : ( إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون    ) [ الحجر : 9 ] . 
والوجه الثالث : أن يكون المراد أنها مصونة عن التناقض كما قال : ( ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا    ) [ النساء : 82 ] . 
والوجه الرابع : أن يكون المراد أن أحكام الله تعالى لا تقبل التبديل والزوال؛ لأنها أزلية والأزلي لا يزول    . 
واعلم أن هذا الوجه أحد الأصول القوية في إثبات الجبر؛ لأنه تعالى لما حكم على زيد بالسعادة وعلى   [ ص: 133 ] عمرو بالشقاوة ، ثم قال : ( لا مبدل لكلماته وهو    ) يلزم امتناع أن ينقلب السعيد شقيا ، وأن ينقلب الشقي سعيدا ، فالسعيد من سعد في بطن أمه ، والشقي من شقي في بطن أمه . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					