[ ص: 16 ]   ( اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء قليلا ما تذكرون    ) 
قوله تعالى : ( اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء قليلا ما تذكرون    ) 
اعلم أن أمر الرسالة إنما يتم بالمرسل وهو الله سبحانه وتعالى ، والمرسل وهو الرسول ، والمرسل إليه ، وهو الأمة ، فلما أمر في الآية الأولى الرسول بالتبليغ والإنذار مع قلب قوي ، وعزم صحيح أمر المرسل إليه ، وهم الأمة بمتابعة الرسول ، فقال : ( اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم    ) وفي الآية مسائل : 
المسألة الأولى : قال الحسن    : يا ابن آدم ، أمرت باتباع كتاب الله وسنة رسوله . 
واعلم أن قوله : ( اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم    ) يتناول القرآن والسنة . 
فإن قيل : لماذا قال : ( أنزل إليكم    ) وإنما أنزل على الرسول . 
قلنا : إنه منزل على الكل بمعنى أنه خطاب للكل . 
إذا عرفت هذا فنقول : هذه الآية تدل على أن تخصيص عموم القرآن بالقياس  لا يجوز لأن عموم القرآن منزل من عند الله تعالى . والله تعالى أوجب متابعته ، فوجب العمل بعموم القرآن ولما وجب العمل به امتنع العمل بالقياس  ، وإلا لزم التناقض . 
فإن قالوا : لما ورد الأمر بالقياس في القرآن . وهو قوله : ( فاعتبروا    ) [الحشر : 2] كان العمل بالقياس عملا بما أنزل الله    . 
قلنا : هب أنه كذلك إلا أنا نقول : الآية الدالة على وجوب العمل بالقياس إنما تدل على الحكم المثبت بالقياس ، لا ابتداء بل بواسطة ذلك القياس . وأما عموم القرآن ، فإنه يدل على ثبوت ذلك الحكم ابتداء لا بواسطة ، ولما وقع التعارض كان الذي دل عليه ما أنزله الله ابتداء أولى بالرعاية من الحكم الذي دل عليه ما أنزله الله بواسطة شيء آخر ، فكان الترجيح من جانبنا . والله أعلم . 
المسألة الثانية : قوله تعالى : ( ولا تتبعوا من دونه أولياء    ) قالوا : معناه ولا تتولوا من دونه أولياء من شياطين الجن والإنس فيحملوكم على عبادة الأوثان والأهواء والبدع . 
ولقائل أن يقول : الآية تدل على أن المتبوع إما أن يكون هو الشيء الذي أنزله الله تعالى أو غيره . 
أما الأول : فهو الذي أمر الله باتباعه . 
وأما الثاني : فهو الذي نهى الله عن اتباعه ، فكان المعنى أن كل ما يغاير الحكم الذي أنزله الله تعالى فإنه لا يجوز اتباعه . 
إذا ثبت هذا فنقول : إن نفاة القياس تمسكوا به في نفي القياس . فقالوا : الآية تدل على أنه لا يجوز متابعة غير ما أنزل الله تعالى ، والعمل بالقياس  متابعة لغير ما أنزله الله تعالى ، فوجب أن لا يجوز . 
فإن قالوا : لما دل قوله : فاعتبروا على العمل بالقياس  كان العمل بالقياس عملا بما أنزله الله تعالى   [ ص: 17 ] أجيب عنه بأن العمل بالقياس ، لو كان عملا بما أنزله الله تعالى ، لكان تارك العمل بمقتضى القياس كافرا لقوله تعالى : ( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون    ) [المائدة : 44] وحيث أجمعت الأمة على عدم التكفير علمنا أن العمل بحكم القياس ليس عملا بما أنزله الله تعالى ، وحينئذ يتم الدليل . 
وأجاب عنه مثبتو القياس : بأن كون القياس حجة ثبت بإجماع الصحابة  ، والإجماع دليل قاطع وما ذكرتموه تمسك بظاهر العموم ، وهو دليل مظنون ، والقاطع أولى من المظنون . 
وأجاب الأولون : بأنكم أثبتم أن الإجماع حجة بعموم قوله : ( ويتبع غير سبيل المؤمنين    ) [النساء : 115] وعموم قوله : ( وكذلك جعلناكم أمة وسطا    ) ( البقرة : 143 ) وعموم قوله : ( كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر    ) ( آل عمران : 110 ) وبعموم قوله عليه الصلاة والسلام : لا تجتمع أمتي على الضلالة وعلى هذا فإثبات كون الإجماع حجة ، فرع عن التمسك بالعمومات ، والفرع لا يكون أقوى من الأصل . 
فأجاب مثبتو القياس : بأن الآيات والأحاديث والإجماع لما تعاضدت في إثبات القياس قويت القوة وحصل الترجيح . والله أعلم . 
المسألة الثالثة : الحشوية  الذين ينكرون النظر العقلي والبراهين العقلية ، تمسكوا بهذه الآية وهو بعيد ؛ لأن العلم بكون القرآن حجة موقوف على صحة التمسك بالدلائل العقلية ، فلو جعلنا القرآن طاعنا في صحة الدلائل العقلية لزم التناقض وهو باطل . 
المسألة الرابعة : قرأ ابن عامر    ( قليلا ما يتذكرون ) بالياء تارة والتاء أخرى . وقرأ حمزة  والكسائي  وحفص  عن عاصم  بالتاء وتخفيف الذال ، والباقون بالتاء وتشديد الذال . قال الواحدي  رحمه الله : تذكرون أصله تتذكرون فأدغم تاء تفعل في الذال لأن التاء مهموسة ، والذال مجهورة ، والمجهور أزيد صوتا من المهموس ، فحسن إدغام الأنقص في الأزيد ، وما موصولة بالفعل وهي معه بمنزلة المصدر . فالمعنى : قليلا تذكركم ، وأما قراءة ابن عامر    ( يتذكرون ) بياء وتاء فوجهها أن هذا خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم أي : قليلا ما يتذكر هؤلاء الذين ذكروا بهذا الخطاب ، وأما قراءة حمزة  والكسائي  وحفص  ، خفيفة الذال شديدة الكاف ، فقد حذفوا التاء التي أدغمها الأولون ، وذلك حسن لاجتماع ثلاثة أحرف متقاربة ، والله أعلم . 
قال صاحب "الكشاف" : وقرأ  مالك بن دينار    (ولا تبتغوا) من الابتغاء من قوله تعالى : ( ومن يبتغ غير الإسلام دينا    ) ( آل عمران : 85 ) . 
				
						
						
