قوله تعالى : ( والوزن يومئذ الحق فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم بما كانوا بآياتنا يظلمون )
اعلم أنه تعالى لما بين في الآية الأولى أن من جملة أحوال القيامة السؤال والحساب ، بين في هذه الآية أن من جملة أحوال القيامة أيضا وزن الأعمال ، وفي الآية مسائل :
[ ص: 22 ] المسألة الأولى : ( الوزن ) مبتدأ و ( يومئذ ) ظرف له و ( الحق ) خبر المبتدأ ، ويجوز أن يكون ( يومئذ ) الخبر و ( الحق ) صفة للوزن ، أي : والوزن الحق ؛ أي : العدل يوم يسأل الله الأمم والرسل .
المسألة الثانية : في قولان : تفسير وزن الأعمال
الأول : في الخبر ، يوزن به أعمال العباد خيرها وشرها ، ثم قال أنه تعالى ينصب ميزانا له لسان وكفتان يوم القيامة : أما المؤمن فيؤتى بعمله في أحسن صورة ، فتوضع في كفة الميزان فتثقل حسناته على سيئاته ، فذلك قوله : ( ابن عباس فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون ) الناجون ، قال : وهذا كما قال في سورة الأنبياء : ( ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا ) ( الأنبياء : 47 ) وأما كيفية وزن الأعمال على هذا القول ، ففيه وجوه :
أحدهما : إن ، فتوزن تلك الصورة : كما ذكره أعمال المؤمن تتصور بصورة حسنة ، وأعمال الكافر بصورة قبيحة . ابن عباس
والثاني : إن الوزن يعود إلى الصحف التي تكون فيها أعمال العباد مكتوبة ، فقال : "الصحف" وهذا القول مذهب عامة المفسرين في هذه الآية ، وعن وسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عما يوزن يوم القيامة ، أن عبد الله بن سلام ينصب بين الجن والإنس يستقبل به العرش ، إحدى كفتي الميزان على الجنة ، والأخرى على جهنم ، ولو وضعت السماوات والأرض في إحداهما لوسعتهن ، ميزان رب العالمين وجبريل آخذ بعموده ينظر إلى لسانه .
وعن - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : عبد الله بن عمر يؤتى برجل يوم القيامة إلى الميزان ويؤتى له بتسعة وتسعين سجلا ، كل سجل منها مد البصر ، فيها خطاياه وذنوبه فتوضع في كفة الميزان ، ثم يخرج له قرطاس كالأنملة فيه شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله ، يوضع في الأخرى ، فترجح وعن الحسن : بينما الرسول - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم واضع رأسه في حجر رضي الله عنه قد أغفى فسالت الدموع من عينها ، فقال : "ما أصابك ما أبكاك ؟ " فقالت : ذكرت حشر الناس وهل يذكر أحد أحدا ، فقال لها : "يحشرون حفاة عراة غرلا ، لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه ، لا يذكر أحد أحدا عند الصحف ، وعند وزن الحسنات والسيئات . عائشة
وعن يؤتى بالرجل العظيم الأكول الشروب فلا يكون له وزن بعوضة . عبيد بن عمير
والقول الثاني : وهو قول مجاهد والضحاك ، أن المراد من الميزان العدل والقضاء . وكثير من المتأخرين ذهبوا إلى هذا القول ، وقالوا : حمل لفظ الوزن على هذا المعنى سائغ في اللغة ، والدليل عليه ، فوجب المصير إليه . وأما بيان أن حمل لفظ الوزن على هذا المعنى جائز في اللغة ، فلأن العدل في الأخذ والإعطاء ، لا يظهر إلا بالكيل والوزن في الدنيا ، فلم يبعد جعل الوزن كناية عن العدل ، ومما يقوي ذلك أن الرجل إذا لم يكن له قدرة ولا قيمة عند غيره يقال : إن فلانا لا يقيم لفلان وزنا ، قال تعالى : ( والأعمش فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا ) ( الكهف : 105 ) ويقال أيضا : فلان استخف بفلان ، ويقال : هذا الكلام في وزن هذا وفي وزانه ، أي يعادله ويساويه مع أنه ليس هناك وزن في الحقيقة ، قال الشاعر :
قد كنت قبل لقائكم ذا قوة عندي لكل مخاصم ميزانه
أراد : عندي لكل مخاصم كلام يعادل كلامه ، فجعل الوزن مثلا للعدل .
إذا ثبت هذا فنقول : وجب أن يكون المراد من هذه الآية هذا المعنى فقط ، والدليل عليه أن الميزان ، إنما يراد ليتوصل به إلى معرفة مقدار الشيء ، ومقادير الثواب والعقاب لا يمكن إظهارها بالميزان ، لأن أعمال العباد أعراض ، وهي قد فنيت وعدمت ، ووزن المعدوم محال ، وأيضا فبتقدير بقائها كان وزنها محالا ، وأما [ ص: 23 ] قولهم : الموزون صحائف الأعمال أو صور مخلوقة على حسب مقادير الأعمال ، فنقول : المكلف يوم القيامة ، إما أن يكون مقرا بأنه تعالى عادل حكيم أو لا يكون مقرا بذلك ، فإن كان مقرا بذلك ، فحينئذ كفاه حكم الله تعالى بمقادير الثواب والعقاب في علمه بأنه عدل وصواب ، وإن لم يكن مقرا بذلك لم يعرف من رجحان كفة الحسنات على كفة السيئات أو بالعكس حصول الرجحان ؛ لاحتمال أنه تعالى أظهر ذلك الرجحان لا على سبيل العدل والإنصاف : فثبت أن هذا الوزن لا فائدة فيه ألبتة ، أجاب الأولون وقالوا : إن جميع المكلفين يعلمون يوم القيامة أنه تعالى منزه عن الظلم والجور ، أن يظهر ذلك الرجحان لأهل القيامة ، فإن كان ظهور الرجحان في طرف الحسنات ، ازداد فرحه وسروره بسبب ظهور فضله وكمال درجته لأهل القيامة ، وإن كان بالضد فيزداد غمه وحزنه وخوفه وفضيحته في موقف القيامة . والفائدة في وضع ذلك الميزان
ثم اختلفوا في كيفية ذلك الرجحان ، فبعضهم قال : يظهر هناك نور في رجحان الحسنات ، وظلمة في رجحان السيئات ، وآخرون قالوا : بل بظهور رجحان في الكفة .
المسألة الثالثة : الأظهر إثبات موازين في يوم القيامة لا ميزان واحد والدليل عليه قوله : ( ونضع الموازين القسط ليوم القيامة ) ( الأنبياء : 47 ) وقال في هذه الآية : ( فمن ثقلت موازينه ) وعلى هذا فلا يبعد أن يكون لأفعال القلوب ميزان ، ولأفعال الجوارح ميزان ، ولما يتعلق بالقول ميزان آخر .
قال الزجاج : إنما جمع الله الموازين ههنا ، فقال : ( فمن ثقلت موازينه ) ولم يقل : ميزانه ؛ لوجهين :
الأول : إن . فيقولون : خرج فلان إلى العرب قد توقع لفظ الجمع على الواحد مكة على البغال .
والثاني : إن ههنا جمع موزون لا جمع ميزان وأراد بالموازين الأعمال الموزونة ، ولقائل أن يقول : هذان الوجهان يوجبان العدول عن ظاهر اللفظ ، وذلك إنما يصار إليه عند تعذر حمل الكلام على ظاهره ولا مانع ههنا منه فوجب إجراء اللفظ على حقيقته فكما لم يمتنع إثبات ميزان له لسان وكفتان ، فكذلك لا يمتنع إثبات موازين بهذه الصفة ، فما الموجب لترك الظاهر والمصير إلى التأويل ؟ المراد من الموازين