ثم وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين ) أي وأقسم لهما إني لكما لمن الناصحين . قال تعالى : (
فإن قيل : المقاسمة أن تقسم لصاحبك ويقسم لك . تقول : قاسمت فلانا ؛ أي : حالفته ، وتقاسما تحالفا ومنه قوله تعالى : ( تقاسموا بالله لنبيتنه وأهله ) ( النمل : 49 ) .
قلنا : فيه وجوه :
الأول : التقدير أنه قال : أقسم لكما إني لكما لمن الناصحين . وقالا له : أتقسم بالله إنك لمن الناصحين ؟ فجعل ذلك مقاسمة بينهم .
والثاني : أقسم لهما بالنصيحة ، وأقسما له بقبولها .
الثالث : إنه أخرج قسم إبليس على زنة المفاعلة ؛ لأنه اجتهد فيه اجتهاد المقاسم .
إذا عرفت هذا فنقول : قال قتادة : حلف لهما بالله حتى خدعهما ، وقد يخدع المؤمن بالله ، وقوله : ( إني لكما لمن الناصحين ) أي قال إبليس : إني خلقت قبلكما ، وأنا أعلم أحوالا كثيرة من المصالح والمفاسد لا تعرفانها ، فامتثلا قولي أرشدكما .
ثم قال تعالى : ( فدلاهما بغرور ) وذكر أبو منصور الأزهري لهذه الكلمة أصلين :
أحدهما : أصلها الرجل العطشان يدلي رجليه في البئر ليأخذ الماء فلا يجد فيها ماء ، فوضعت التدلية موضع الطمع فيما لا فائدة فيه . فيقال : دلاه إذا أطمعه .
الثاني : ( فدلاهما بغرور ) أي أجرأهما إبليس على أكل الشجرة بغرور ، والأصل فيه دللهما من الدل ، والدالة وهي الجرأة .
إذا عرفت هذا فنقول : قال : ( ابن عباس فدلاهما بغرور ) أي غرهما باليمين ، وكان آدم يظن أن أحدا لا يحلف بالله كاذبا . وعن ابن عمر رضي الله عنه : أنه كان إذا رأى من عبده طاعة وحسن صلاة أعتقه ، فكان عبيده يفعلون ذلك طلبا للعتق . فقيل له : إنهم يخدعونك ، فقال : من خدعنا بالله انخدعنا له .
ثم قال تعالى : ( فلما ذاقا الشجرة ) وذلك يدل على أنهما تناولا اليسير قصدا إلى معرفة طعمه ، ولولا أنه تعالى ذكر في آية أخرى أنهما أكلا منها ، لكان ما في هذه الآية لا يدل على الأكل ، لأن الذائق قد يكون ذائقا من دون أكل .
ثم قال تعالى : ( بدت لهما سوآتهما ) أي ظهرت عوراتهما ، وزال النور عنهما ( وطفقا يخصفان ) قال الزجاج : معنى طفق : أخذ في الفعل ( يخصفان ) أي يجعلان ورقة على ورقة . ومنه قيل للذي يرقع النعل : خصاف ، وفيه دليل على أن آدم ، ألا ترى أنهما كيف بادرا إلى الستر لما تقرر في عقلهما من قبح كشف العورة ( كشف العورة قبيح من لدن وناداهما ربهما ) قال عطاء : بلغني أن الله ناداهما أفرارا مني يا آدم . قال بل [ ص: 42 ] حياء منك يا رب ، ما ظننت أن أحدا يقسم باسمك كاذبا ، ثم ناداه ربه أما خلقتك بيدي ، أما نفخت فيك من روحي ، أما أسجدت لك ملائكتي ، أما أسكنتك في جنتي في جواري .
ثم قال : ( وأقل لكما إن الشيطان لكما عدو مبين ) قال : بين العداوة حيث أبى السجود ، وقال : ( ابن عباس لأقعدن لهم صراطك المستقيم ) ( الأعراف : 16 ) .